Post-scriptum biographique à un Entretien philosophique

 

تذييل بيوغرافي على حوار فلسفي

هنري كوربان

 

وأنا أعيد قراءة نص الحوار الذي أجراه معي فليب نيمو، جاءني الانطباع بأن أغلب الأسئلة الجوهرية التي شغلت حياتي باحثا قد تمتناولها فيه على الأقل تلميحا. وبالتأكيد فإن الفجوات لا تنعدم فيه، ومنها كان من الممكن أن تمرير العديد من التطويرات والشروح غير النافلة. لكن الحوار كان سيستمر إلى ما لا نهاية…

ومن بين هذه الفجوات، ثمة بعضها كانت ستحمل توضيحات لن تُظهر بوضوح كاف مسيري الروحاني، ومراحل سيرة حياتي. فقد ألمحت إلى تكويني الأصلي كفيلسوف. وأن يتعاطى طالب فلسفة للفلسفة الألمانية أمر غير مفاجئ. أما أن يتبع سبيل الفلسفة الإسلامية، بالعربية والفارسية، فذلك هو الأمر غير المتوقع كثيرا. وأن يمزج بين السبيلين، فالحالة هذه بالغة الندرة. كيف تمت إذن هذه اللقاءات؟

لن يندهش أحد من أن يكون طالب فلسفة، قام بهضم واع للمؤلفين المبرمجين في الإجازة، متشوقا لاستكشاف قارات جديدة لا تندرج في برامجه الدراسية. ومن بين هذه القارات التي لم تستكشف إلا نادرا كان ثمة الفلسفة الوسيطية، التي جاءت دراسات أبحاث إتيين جيلسون لتجديد دراستها تجديدا تاما. وهكذا طلع الفجر على هذه القارة المنسية التي كان يكفي قبس من نور لكي يستجذب إليها طالبا متعطشا لتوسيع دائرة مغامرته الفلسفية. ففي سنة 1923-1924، إذا لم تخني الذاكرة، بدأ إتيين جيلسون دروسه الفريدة في قسم العلوم الدينية بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا بباريس. وفي كل الأحوال فانطلاقا من هذه السنة كنت طالبا لديه. وأريد هنا أن أثبّت مرة إلى الأبد الذكريات الساطعة التي تركتها في دروس إتيين جيلسون، التي تابعتها لمدة سنوات عديدة. لم تكن منهجيته تتمثل أبدا في أن يطلب من طلبته ترجمة هذا المقطع أو ذاك من النص، أو في أن يطلب رأيهم كي يقوم في الأخير بتعليق ما. كانت المرحلة هي تلك التي كان فيها الطلبة يفدون كي يستمعوا للأستاذ لا لزملائهم، لأنهم لم يكونوا يشكون في أن الأستاذ على معرفة أعمق وأوسع من معارفهم. كان جيلسون يقرأ النصوص اللاتينية، ويترجمها بنفسه ويستخرج منها كل محتوياتها، المعلن منها والمضمر في تعليق لائق بأستاذ يسير نحو عمق الأمور. وكان إعجابي به من الكِبر بحيث قررت أن أتخذ منه نموذجا لي، وبحيث سعيت فيما بعد أن أقوم بخصوص الفلسفة والإلهيات الإسلامية بالدروس نفسها التي كنت أرغب في سماعها في تلك المرحلة، والتي لم يكن أحد يقوم بها. ومن بين النصوص التي تناولها إتيين جيلسون خلال تلك السنوات الخصيبة، كان ثمة النصوص المترجمة من العربية إلى اللاتينية بمدرسة طليطلة في القرن الثاني عشر، وعلى رأس تلك النصوص كتاب ابن سينا الشهير كتاب الشفاء، والذي كان تعليق جيلسون يمنحه كامل عظمته ومداه. ذلك كان أول لقاء لي بالفلسفة الإسلامية. وقد اكتشفت فيه تقاربا بين نظرية الكون وعلم الملكوت، بحيث تساءلت بخصوصه إن لم يكن ثمة سبيل لتعميقه في جوانب أخرى، وأعتقد أن هذا الهم الملكوتي لم يفارقني منذ ذلك الوقت.

لكن في انتظار ذلك، فرضت مهمة نفسها علي بشكل ملحاح. فلكي يرى المرء بعيدا، عليه أن ينظر بنفسه في النصوص. ولكي يتم ذلك، كان علي أن أباشر تعلم اللغة العربية. وقد شجعني جيلسون نفسه على ذلك. لهذا، ومنذ الدخول الجامعي 1926-1927، أدرت الظهر للتبريز في الفلسفة وأخذت طريق المدرسة الوطنية للغات الشرقية. لم تكن هذه المدرسة في تلك المرحلة تلك "الآلة العظيمة" التي أصبحتها اليوم. كانت العمارة الصغيرة بزنقة ليل بباريس تفصح عن الحال الحميم لمدرسة لا تزال في الوضعية التي تركها فيها سلفستر دو ساسي أول رئيس لها. وكان قسم كل لغة لا يتجاوز ثلة من الطلبة، ومع صديقي جورج فاجدا، كنا الطالبين الفيلسوفين الوحيدين الضالين في تلك المؤسسة الموقرة. وولوج مدرسة اللغات الشرقية هو الذي هيأني لولوج المكتبة الوطنية، حيث تمت المناداة علي باعتباري مستشرقا منذ سنة 1928. وكان ذلك المرور بالمكتبة الوطنية هو الذي سيفضي بي، ويا للمفارقة، إلى الانفلات بنفسي نهائيا نحو المشرق.

لكن، وفي تلك السنوات بالضبط، كان ثمة دروس أخرى قابلة لأن تغير مسار الشاب الفيلسوف المتحمس وتجعله يحيد عن الطريق المشترك للبرامج الدراسية. كان ذلك يتمثل في دروس إميل بريهييه. ومع ما يناهز الخمسين سنة من الزمن، لا نزال نحس أن المقاربة بين اسم الأستاذين تخلق الاحتكاك العنيف. فإميل بريهييه، والذي كان في هذا الصدد وريث التصورات الفلسفية لعصر الأنوار، كان ينادي بأن لا وجود لفلسفة مسيحية. وكانت مؤلفات جيلسون بكاملها تفند أقوله أيما تفنيد، وظل من الصعب علينا الخروج من درس عن دون سكوت، والقبول بعدم وجود فلسفة مسيحية. فكيف يمكن إقناع رجل عقلاني عقلانية صارمة، بفكرة أن معطيات الكتب المقدسة يمكنها أن تكون عمادا للتأمل والبحث الفلسفي؟وإذا ما نحن رفضنا ذلك، فلن يكون ثمة لا فلسفة يهودية ولا فلسفة إسلامية. ولن نعرف أبدا إذا ما كان المعلم إيكار وجاكوب بوهم سيبقيان في حظيرة الفلسفة الألمانية. وتسير المفارقة أبعد من ذلك، غير أنها لا تقوم سوى بترجمة أحد "أنماط الوجود" التي قلنا في الحوار السابق أنْ ليس ثمة من قوة إنسانية خارجية يمكنها أن تجعلها تستسلم.

ومهما كان الأمر، فقد كان إميل بريهييه مستغرقا في كتاب "الربات التسع" لأفلوطين الذي كان يقوم بتحقيقه وترجمته ويعده للنشر. وفي سنة 1922-1923، كان قد ألقى دروسا بالسوربون عن أفلوطين والأذكار الميتافيزيقية البوذية، وجاءت دروس السنوات الموالية لتبرز آثارها. ومن جديد، لنطرح السؤال: كيف لطالبٍ متعطش للمغامرة الميتافيزيقية أن يقاوم هذا النداء المتمثل في تعميق تأثيرات أو آثار الفلسفة الهندية على مؤلفات مؤسس الأفلاطونية الجديدة؟ لكن، لذلك كان علي أن أتعلم السنسكريتية. غير أني كنت قد قررت قبلها تعلم اللغة العربية. فكيف لي أن التوفيق بين الأمرين؟ كان علي اختيار الواحد منهما أو الآخر، وهو ما كان سينصحني به أي فيلسوف أو فقيه لغة طلبت نصحه. بيد أن الفيلسوف له علله التي لا يفهمها فقيه اللغة دائما. فقد كان على الفيلسوف أن يختار خفية طبعا، الحل البطولي المتمثل في البدء في الوقت نفسه في تعلم العربية والسَّنسكريتية. وأؤكد أنها كانت مرحلة عجيبة من الزهد الفكري. ولم يكن لها أن تدوم أكثر من سنتين. وقد احتفظت منها بحصيلة جعلتني عندما أقرأ اليوم كتابا عن الفلسفة الهندية أو البوذية، فإن المصطلحات السنسكريتية التي تحتويها لا تكون غريبة عني كل الغرابة. لكنني عند انتهاء السنتين، كان لي أن أعثر في طريق المشرق على "الإشارة" التي ستدلني على الوجهة النهائية لطريق لا عودة منه. فقد غدا سبيلي منذئذ يمر بالنصوص العربية والفارسية.

وعلي أن أقول بأن الفيلسوف الذي أصبح طالبا ضالا لدى اللسانيين قد اعتقد أنه سيموت من التعلم الأولي إذ لم يكن غذاؤه يتكون سوى من كتب النحو والمعاجم. فقد تساءل غير ما مرة، وهو يتذكر الغذاء الجوهري الذي كانت تمده به الفلسفة: ما الذي أفعله هنا؟ في أيضلال تهت؟ كان ثمة مع ذلك مأوى كانت تدرس فيه الماهية الرفيعة للروحانية الإسلامية. كان ذلك المأوى يسمى لويس ماسينيون، الذي بدأ منذ1928 يزاوج بين إدارة شعبة الدراسات الإسلامية  في قسم العلوم الدينية في مدرسة الدراسات العليا والتدريس في الكوليج دو فرانس. ولم أحدس أبدا أنني سأدعى في يوم ما إلى خلافته في كرسيه الأخير هذا. لكن التباين بين الدروس المنهجية الصارمة لإتيين جيلسون ودروس لويس ماسينيون كان "خرافيا". صحيح أن الأستاذ كان يوزع في بداية السنة برنامجا يقسم الموضوع العام إلى دروس معينة. لكن ما أهمية البرامج. فقد كان يحدث أن يبدأ درس ما بإحدى الحدوس الساطعة التي كان المتصوف الكبير ماسينيون أحد عباقرتها. ثم ينفتح القوس ثم قوس آخر، وآخر... وفي الأخير يجد الطالب نفسه مشدوها وضالا في قلب مشكلة الأستاذ مع السياسة البريطانية في فلسطين...

لكن، كان علينا ألا نرى في ذلك، وكنا فعلا لا نرى في ذلك سوى جانب ضروري من الولع الذي كان ماسينيون يكتوي بحرقته. وما كان لنا لنتخلص من تأثيره. فنفسه النارية وغوصه الجريء في لغز الحياة الصوفية في الإسلام، حيث لا أحد بلغ فيها ذلك المبلغ وبتلك الطريقة، ونبالة استنكاره لنذالة هذا العالم، كل ذلك كان يسم بميسمه أذهان طلابه الشباب. صحيح أنه مع توالي السنين، أصبح من المستحيل علينا ألا ننتبه لبعض الجوانب الهشة ولبعض الهفوات. وفي سن متأخرة، تأسف ماسينيون كثيرا حين لم يستطع أصدقاؤه مجاراته في مواقفه السياسية. غير أن هذا لا يمس أبدا الاحترام الذي أثير به ذكرى ماسينيون. أكيد أنه كان يفاجئ بعض الشيء الفيلسوف الذي كنته، لأن تكوينه الأصلي لم يكن أبدا ذا طابع فلسفي، ومن ثم بعض التأرجح في المصطلحات حين لا يكون ذلك في بعض المواقف التي يتخذها. لقد عرفت في بعض الأيام وجها لماسينيون شيعيٍّ  مغل في التشيع، وأنا مدين له في هذه النقطة كثيرا؛ فدراساته عن سلمان باك وفاطمة الزهراء لا تزال تحمل العديد من الحدوس التي يلزم استكشافها، بتفعيلها مع البحوث التي تمت منذ ذلك الحين. لكن في أيام أخرى، وجدته يعنِّف أيما تعنيف الشيعة والشيعيين، الذين ظلت نصوصهم الكبرى فعلا غريبة عنه. كنت أدافع عنهم معارضا إياه بأن تصورهم للإمامة لم يكن جسديا، بل أن العلاقة العائلية بين الأئمة لم تكن سوى صورة لرابطتهم السماوية الخالدة. فكان ماسينيون يندهش لحظتها من غلوي في التشيع. ألم أكن قد بدأت في دراسة واسعة لنصوص العرفان الإسماعيلي؟ بيد أنه عرف كيف يؤكد بشجاعة أن الإسلام الإيراني قد خلّص الإسلام من كل ارتباط جذري، عرقي أو وطني، بالرغم من أنه أسرَّ لي أنه لم يحس أبدا فيه أنه "مرتاح". لذا حين اتبعت ببساطة الخط الذي انتهجه المشروع الواعي للسهروردي "باعث التصوف الحكمي للأنوار لدى حكماء بلاد فارس القديمة،" تخوف ماسينيون من ذلك كثيرا. فنصحني قائلا: "لا تُمَزْدِك" كثيرا. فما كان ينبغي العمل إذن؟ في البداية، لا ينبغي علينا أن نخطئ اليوم الذي ينبغي فيه طرح الموضوع الذي جئنا من أجله. ثم، كان علينا ألا ننسى لماذا جئنا لزيارته، والإمساك جيدا بالخيط الرابط للحديث. وآنذاك تكون لنا حظوظ أوفر أن نخرج من عنده راضين.

وهكذا في أحد الأيام، وكان ذلك على ما أعتقد في سنة 1927-1928، حدثته عن الأسباب التي قادتني أنا الفيلسوف إلى دراسة العربية، وعن الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي عن العلاقة بين الفلسفة والتصوف، وما كنت أعرفه، من خلال ملخص هزيل بالألمانية عن السهروردي... حينها، جاء الإلهام ماسينيون من عقر السماء. فقد حمل معه من إحدى سفراته بإيران طبعة حجرية لأهم مصنف للسهروردي ألا وهو كتاب حكمة الإشراق. ومع الشروح كان الكتاب يشكل مجلدا ضخما بأكثر من خمسمائة صفحة. فقال لي: "خذ، أعتقد أنك ستجد في هذا الكتاب شيئا يخصك". وكان ذلك الشيء هو صحبة الفيلسوف الشاب شيخ الإشراق، التي لم تفارقني طيلة حياتي. كنت دائما شخصا أفلاطونيا (بالمعنى العام للكلمة طبعا)؛ وأنا أعتقد أن المرء يولد أفلاطونيا، كما يمكن أن يولد ملحدا أو ماديا، إلخ. إنه اللغز المستعصي على التفسير للاختيارات القبل وجودية. فالأفلاطوني الشاب الذي كنته وقتها لم يكن له سوى أن يشتعل عند ملامسة "إمام أفلاطونيي بلاد فارس".فلم أكف عن الحديث عنه في كتبي وفي تحقيقاتي وترجماتي لمؤلفاته بحيث لن أضيف شيئا لهذا هنا، سوى لأحدد الملمح الحاسم لذلك.

فعبر لقائي بالسهروردي، تحدَّد بشكل نهائي مصيري الروحاني لعبور هذا العالم. وذلك المنزع الأفلاطوني كان يعبر عن نفسه في عبارات علم الملكوت الزارادشتي لبلاد فارس القديمة، وهي تنير السبيل الذي كنت أبحث عنه. ولم يكن علي أن أظل متأرجحا بين السنسكريتية والعربية. كانت بلاد فارس توجد في المركز، باعتبارها عالما وسطا ووسيطا، ذلك أن فارس أو إيران العتيقة، ليست فقط أمة أو أمبراطورية ، إنها عالم روحاني كامل، وبؤرة لتاريخ الديانات. كان ذلك العالم مستعدا لاستقبالي، وقد استقبلني أيما استقبال. ومنذ ذلك الوقت، انتقل الفيلسوف إلى مصاف المستشرقين. وسوف يصرح في ما بعد، وقد حنكته التجربة الطويلة، لماذا يظل الفلاسفة، لا المستشرقون، الوحيدين القادرين على التكفل ب"الفلسفة المشرقية".

وهكذا بدأت المغامرة الكبرى. وفي العادة كان علي بعد الحصول على الإجازة ودبلوم الدراسات العليا في الفلسفة أن أقوم بتحضير شهادة التبريز. كانت تلك طريق الحكمة من غير مفاجآت، عادية إلى درجة أن أحد أساتذة السوربون الذي التقيته صدفة لدى أحد أصدقائي والذي أخبرته بقراري، سألني بلهجة أبوية: "أخبرني، هل تملك ثروة شخصية أو وقتا تنذرهما للضياع؟" لم يكن لدي والحمد لله لا هذه ولا ذاك. لكن كيف السبيل إلى تحمل دروس وآفاق التبريز، حين يكون لدينا هذا الهدف العظيم: أن أقوم إزاء الفلسفة الإيرانية، التي تتبدى أعلامها الكبرى من خلال شراح السهروردي، ما قام به إتيين جيلسون لـ"بعث" الفلسفة الوسيطية الغربية. ربما كان ذلك رهانا ضد مصادفات القدر. بيد أن ذلك الرهان أعتقد أن السماء منحتني فضيلة قبوله وربحه.

 

ربما لم نكن نحن سوى بقايا من حلقة أصدقاء الأخوين الرائعين باروزي: يوسف الأخ الأكبر، صاحب كتابي "إرادة التحولات"، و"حلم قرن"، وعالم الموسيقى الذي كان ينشر بانتظام في مجلة "المنستريل" مقالات عميقة عن الفكر الموسيقى؛ وجان الأخ الأصغر، الذي قضى عشرين عاما في كتابة أطروحته الهائلة عن جان دو لا كروا، التي كان لها المعجبون بها والناقدون لها. خلَف جان باروزي ألفريد لوازي في الكوليج دو فرانس، قبل أن يصبح به صاحب كرسي تاريخ الديانات. كان يتابع دروسه بحماس ومثابرة العديد من الطلبة الذين كان يوجد من بينهم عدد من تلامذة كلية اللاهوت البروتستانتية وقتها. فهو الذي كشف لنا عن لاهوت لوثر الشاب الذي كان حينها في مقدمة الأبحاث اللاهوتية بألمانيا. وبعده كشف لنا عن كبار الروحانيين في البروتستانتية، كسبستيان فرانك، وكاسبار شفينكفيلد، وفالونتان فيغل، ويوهان لآرندت، وغيرهم. كان الأستاذ لا يخفي أيا من الصعوبات التي يلاقيها عرضه الأولي الجديد، غير أن سيلا من الحياة الروحانية كان لا يلبث أن يعصف بتلك المشكلات العارضة.كل شيء كان جديدا وجذابا. بدأت حينها أحس ببعض الأصداء كما لو كان نداء بعيدا يدعوني لاستكشاف ما سميته في ما بعد "ظواهر الكتاب المقدس". كان ذلك طريق التأويليات l’herméneutique الذي ينفتح أمامي في غبش الفجر. ولو كنت قررت الرحيل إلى المشرق لتَوّي بعد سماع تأويل جيلسون لابن سينا، لكان من المستحيل علي التعرف على طريق الروحانيين كما تأوله جان باروزي وقرار الرحيل هناك للتعرف عليهم مباشرة. فجان باروزي هو الذي أرشدني لطريق ألمانيا الفلاسفة و"الأشخاص" العظام للروحانية الصوفية. فكانت محطتي الأولى هي مدينة فريبورغ.

وهكذا كانت إيران وألمانيا نقطتا الاستدلال الجغرافي لمسعى روحي ظل مستمرا في الواقع في المناطق الروحانية التي لم تكن محددة في خرائطنا. وأنا أذكّر بهما هنا، تعضيدا لما قلته في بداية حواري مع فيليب نيمو. يتابع الفيلسوف مسعاه بالاستجابة بكامل الحرية للإلهام الروحي. وأصدقائي الإيرانيون يعرفون جيدا أنني لا يمكن أعزل صحبتي للسهروردي وأهله عن صحبتي لجاكوب بوهم ومدرسته. وأنا أعتقد أن وحدة ما يرمزون له هو ما جعل مني ما أنا عليه اليوم.

كانت الحلقة المجتمعة حول الأخوين باروزي غير القابلين للافتراق في ذاتها دعوة لتجريب المغامرة الروحية. فالأخوان كانا، من خلال ثقافتهما الشاسعة وحسهما بالقيم الروحية الأكثر رفعة وبفن الحياة، شاهدين على عصر آخر، وممثلين رفيعين لأوروبا ومجتمعا اندثرا مع الحرب العالمية الأولى والثانية، ولم نستطع إعادته للحياة طالما أن سيطرة الشياطين والممسوسين الذين تنبأ بهم دوستويفسكي كانت عميقة. فقد كانا ينظمان اجتماعات متوالية في منزلهما بشارع فكتور هوغو بباريس، عدا حصص المناظرات التي كان جان باروزي يعقدها في بيته والتي كانت تستمر  إلى وقت متأخر من الليل. وكنا نلاقي من بين الحاضرين فيها كل أنواع الشخصيات الأوروبية غير المتوقعة. كان حضور رفاقنا الألمان فيها دائما قويا. وكان جان باروزي يمنح للمحادثات المجرى الذي ينبغي لها أن تتبعه لو كانت في "فيمار" غوته. فهو كان بامتياز الأستاذ الذي يهدم كل مسافة رسمية بين الأستاذ والطالب. والذين كان لهم مثلي حظ عيش هذا الضرب من العلاقة التي يبلِّغ فيها الأستاذ معارفه بشكل أفضل من أي درس، يصابون بالدهشة اليوم حين يسمعون الطلبة يشتكون من الهوة الكبرى بينهم وبين أساتذتهم. ومن ثم يقيسون مدى التحول المحزن للوقت.

ماربوغ في لاهن ! هكذا عرف جان باروزي كيف يرشدني نحو هذا المكان الرفيع، الذي سبقني إليه، وربط فيه علاقة الصداقة مع رودولف أوطو، وفريدريك هايلر. كيف يمكنني أن أعبر عن الانبهار الذي عاشه الفيلسوف الشاب النازل بمدينة ماربورغ في بداية يوليوز عام 1930؟ سحر الأمكنة، وتلك "التلَّة الملهمة" التي لا تعيش إلا بالجامعة ومن أجلها، والغابات الرائعة من حولها... مكثت فيها أكثر من شهر. وكانت بها زيارتي الأولى لرودولف أوطو، الذي كان حينها أستاذا مبرزا، والذي مع ذلك كان حضوره نشيطا باعتبار أنه كان أحد الوجوه الكبرى لألمانيا البروتستانتية الليبرالية. كانت كتبه عن "المقدس" وعن "التصوف المشرقي والغربي"، ومعرفته العميقة بالمدارس الفلسفية والدينية بالهند هائلة، ورائعة أيضا كانت البساطة التي كان هذا العالم العلامة يتحادث فيها مع طالب مبتدئ بفرنسية كلاسيكية رائعة كما لو كان زميلا له لأن هذا الأخير كان مستعربا.

ثمة مصادفتان سأسجلهما هنا. الأولى حدثت خلال مقامي بماربورغ عندما جاء إليها رابندرانات طاغور. لن أنسى أبدا الجمال الشاحب للوجه الصالح للرائدين رابندرانات طاغور ورودولف أوطو وهما جنبا إلى جنبا على منصة جامعة ماربورغ. والمصادفة الثانية تتمثل في كون أولغا فروب-كابتين جاءت إلى ماربورغ في تلك الفترة بالضبط للتحاور المطول مع رودولف أوطو بصدد مشروع منحه هذا الأخير شكله وفحواه. وبعد أن أخذ هذا المشروع شكله، كانت ولادة حلقة إيرانوس بأسكونا التي سوف أذكر فيما بعد بالدور الهام الذي لعبته في حياتي كباحث. ولأكثر من مرة تحدثت مع أولغا عن تأثرنا الكبير أنا وهي كلما ضغطنا على زر جرس إقامة رودولف أوطو.

كان الطلبة الذين تعرفت عليهم آنذاك بماربور يعيشون حياة فلسفية ولاهوتية مكثفة. ولن ألح كثيرا على بعض المناحي؛ بل علي أن أتعرض للصخب الذي بدأ يثيره لاهوت رودولف بولتمان. لكن كان ثمة أيضا فريديريك هايلر المذكور آنفا، الأستاذ بكلية اللاهوت. وهو شخصية مأساوية، ومؤلف كتاب عظيم عن الصلاة، يطمح إلى تأسيس مسيحية بلا ارتباط عقَدي. وكان ثمة أيضا صديقي ألبير ماري شميدت، الذي كان حينها أستاذا للغة الفرنسية. الغريب أنه هو الذي أهداني الترجمة الفرنسية لأول كتاب لسويدنبرغ "عن السماء وجهنم" الذي تعرفت عليه حينها. وفي العمق كان سويدنبرغ يخيف هذا الكالفيني الورع، وربما كان يعتقد أنه وهو يهديني هذا الكتاب سيكون بين أيدي أفضل من يديه. يبقى أنني في ماربورغ انغمست باندهاش في القراءة العميقة لسويدنبرغ، الذي سوف تصاحبني أعماله العظيمة طيلة حياتي. بل أفضل من ذلك، فقد شكلت تلك المؤلفات الرابطة الأولى لعلاقة الصداقة مع إرنست بينز، الذي أصبح فيما بعد أستاذا بكلية اللاهوت بماربورغ. وهو أحد كبار المختصين في الدراسات السويدنبرغية، وقد تعرفت عليه في إيرانوس منذ ثمان وعشرين سنة خلت، كما لو أن بين ماربورغ وإيرانوس كان ثمة طريق دائم.

والمفارقة الأخرى هي أنني سمعت الحديث لأول مرة عن كارل بارث عبر الأستاذ ثيودور سيغفريد الذي تم تبريزه من قبل رودولف أوطو. وقد أهداني نسخة من التعليق العميق على "رسالة إلى الرومان" التي بعثها القديس بولس إلى الروم. وبالرغم من أن سيغفريد قد حذرني من الشكلانية الخالصة الذي يدان من أجلها "اللاهوت الجدلي" فقد انغمست بحماس في قراءة هذا الكتاب، الذي أحسست فيه بالعديد من الأشياء التي يلزم الإفصاح عنها لأول مرة. ونتائج ذلك سوف تستمر لمدة سنوات. وكان هايدغر قد ترك من التدريس بجامعة ماربورغ للالتحاق بجامعة فريبورغ، لكن كان في شعبة الفلسفة عالمان جليلان هما كارل لوويث، الذي كانت لي معه العديد من الأحاديث عن هامان والتيارات المتصلة بمؤلفاته؛ وجيرار كروغر، الخبير في الظاهريات، الذي أدركت في مناظرته المشكلات التي كانت طليعية في ألمانيا. وحين تركت ماربورغ، جاءني الانطباع أن تربيتي الفلسفية بكاملها تتطلب الاستعادة من جديد. كان ذلك محمسا وقاتلا في الآن نفسه.

دفعني هذا اللقاء بالفلسفة الألمانية إلى تجديد مقامي بألمانيا لمرات عديدة بين سنتي 1931 و1936. وسأتحدث بكثير من التأثر، وبالتفكير في كل الراحلين (ومن بينهم كارل بارث وغيره الكثير) مقامي بمدينة بون سنة 1932. كان هناك طبعا كارل بارث والزمرة القوية لطلابه وتابعيه. وكانت النقاشات اللاهوتية تسير سيرها الحسن خاصة وأننا كنا نحس بالكارثة المحيقة. وفي تلك الفترة ترجمت كتيبا لكارل بارث بعنوان: "يأس الكنيسة البروتستانية" (غير أنني منحتها عملا بنصيحة بيير موري عنوان: بؤس وعظمة الكنيسة الإنجيلية). ومن بين زملاء كارل بارث، كان فريتز لييب، الذي كان شخصية مؤثرة بحبها الصوفي لروسيا الأرثدوكسية، وهو حب غير محدود بحيث لم ينتبه صاحبه أبدا أن روسيا المقدسة الأرثدوكسية كانت في ذلك الوقت قد صعدت إلى السماء. وكانت علاقتنا تتمثل في ارتباطنا المشترك بنيكولاس بيردياف، الذي واتتني الفرصة لأعبر في مكان آخر عن ديْني الروحاني له. وجدنا أنفسنا أنا وفريتز ليب لدى نكولاس بيردياف، خائضين نحن الثلاثة في حديث أخروي في أحد الأمسيات المأساوية من ربيع 1939. لقد ذكرت هنا اسم فريتز لييب باعتباره حالة تمثيلية: فقد كان في الآن نفسه تابعا لكارل بارث، وعاشقا لفيغل وباراكليس، والحكمة الإلهية للأب سيرج بولغاكوف. ولأكثر من مرة سألته: كيف توفق بين هذا وذاك يا عزيزي ليب؟ فيحيبني والدموع تترقرق في عينيه: آه. إنه لأمر صعب، صعب.

علي أن أتعرض لمقامين بهامبورغ حيث كان يدرّس إرنست كاسيرير فيلسوف الأشكال الرمزية، الذي وسع طريقي نحو ما كنت أبحث عنه وأحس به بشكل غامض، والذي أصبح فيما بعد فلسفتي الكاملة عن عالم المثال mundis imaginalis الذي أدين باسمه للأفلاطونيين الفرس. كان كاسيرر يعرف جيدا أفلاطونيي كامبردج ويكشف لي بذلك عناصر أخرى من عائلتي الروحانية. كان هناك أيضا معهد واربورغ، بموارد مكتبته الكبرى. وفي ربيع 1934 قمت بزيارتي الأولى لهايدغر بفريبورغ. بدأنا حينها خطة النصوص والمقاطع التي علي ترجمتها جامع إياها تحت عنوان: "ما الميتافيزيقا؟" كان من اللازم البدء بمشروع محدود. ثم إن ليبرالية جوليان كاين، مدير المكتبة الوطنية، سمحت لي بتفرغ مكّنني من قضاء السنة الجامعية 1935-36 ببرلين بالبيت الأكاديمي الفرنسي، الذي كان مديره هو صديقي هنري جوردان الذي عرفته أستاذا بجامعة بون. وفي يوليوز1936، قمت أنا وزوجتي بمقام بفريبورغ، حيث استطعت أن أضع بين أيدي هايدغر بعض مشكلات الترجمة. بيد أنه كان يضع ثقته الكاملة في، ويوافق على كل اشتقاقاتي وابتكاراتي اللغوية الفرنسية ويترك لي مسؤولية ثقيلة شيئا ما. وقد تحدث عن هذا المقام بالحوار مع فيليب نيمو.

لقد وسعت تجاربي الجرمانية حلقة أصدقائي بباريس. وأود أن أعبر عما كانته لي صداقة ألكسندر كويري، أحد أذكى الشخصيات التي عرفتها. فقد كان في المقام الأول مشهورا بمؤلفه الجبار عن جاكوب بوهم، ثم جاءت العديد من المنشورات عن تاريخ العلوم، وعن الثورة الفلكية. وبسبب كتابه عن جاكوب بوهم وغيرها من المنشورات عن الروحانيين الذين كان جان باروزي يدرسهم من جهته، تخيل الكثيرون أن ألكساندر كويري حكيم إلهي كبير. غير أنه كان شخصا خجولا ومتواضعا ولا يفصح أبدا عن قناعاته العميقة. وغالبا ما كنت إحدى المزح تجعل الناس يظنون أنه لاأدري ولاعرفاني، بل عدمي يائس. والحقيقة أن صديقنا كويري قد حمل معه سره إلى قبره. وأنا أقول هذا ليس من غير تأثر، ذلك أني كنت آخر زملائه في مدرسة الدراسات العليا والذي شد على يده محييا إياه في المصحة قبل وفاته بيوم واحد.

وما أرغب في قوله في ذكراه أنه كان، وبطريقة مختلفة بلا شك عن جان باروزي، صديق ورفيق تلامذته وطلابه في مدرسة الدراسات العليا بباريس. فقد كانت أغلب الدروس تنتهي في مقهى داركور، التاريخي المريح في زاوية ساحة السوربون وشارع السان مشيل. من سيعيد لنا مقهى الداركور التي وجدتها غداة الحرب وقد تحولت إلى مكتبة وراقة، والتي غدت اليوم دكانا للملابس الجاهزة والأحذية. ففي مقهى الداركور تبلور جزء من الفلسفة الفرنسية في تلك المرحلة. وكان هيجل والتجديد الهيجيلي يحتل فيها مكانة خاصة. فحول كويري، كان هناك ألكساندر كوجيف (كوجيفنيكوف)، ورايمون كينو، وأنا، وفلاسفة مثل فريتز هاينمان، والعديد من زملائنا اليهود الذين اختاروا المنفى والذين كانت قصتهم المؤسفة تعلمنا بماجريات الأمور بألمانيا. كانت اللهجة تتصاعد أحيانا بشكل كبير. وكان كوجيف وهاينمان مختلفين أيما اختلاف بخصوص تأويل فينومينولوجيا الروح لهيجل. وظلت المواجهة بين فينومينولوجيا هوسرل وفينومينولوجيا هايدغر تُطرح مرارا. ثم إننا كنا نستفز رايمون كينو: كيف كان يفعل لكتابة رواية؟ هل كان يقوم بخطاطة؟ أم كان يترك للأمور مجراها؟ لا أستطيع هنا أن أذكر كل اسم أحتفظ به في ذاكرتي، غير أني لا أستطيع أن أتناسى بالأخص ذكر شخصية الصديق القديم برنار غروثويسن، سقراطنا الفريد، وهو الشخصية المحورية للأمسيات التي لا تنسى  التي كان ألكساندر كويري وزوجته يقيمانها في شقتهما الصغيرة في زنقة نافار بباريس. فقد كان مرح غروثويسن يسيطر على عوادي الزمن وعلى همومنا. فهو الذي دشن "الأنثربولوجيا الفلسفية" (وكتابه الكبير الذي يحمل هذا الاسم ظل غير مكتمل)، وبفضل عناده تم نشر ترجمتي لهايدغر، ذلك أن هذا الأخير باعتباره فيلسوفا غير معروف لم يكن يهم أبدا الناشرين.

وخلال أمسيات زنقة نافار، كانت خطاطة المجلد الجديد من كتاب "الأبحاث الفلسفية" لا يزال يحتل موقعا كبيرا. ونحن لا نملك في أيامنا هذه شيئا يشبهه. فقد حمل الناشر الشجاع بوافان ثقل المجلدات الستة السنوية المكونة من ما ينيف عن الخمسمائة صفحة، والتي كانت لأغلبيتنا مختبرا لا يضاهى. وإذا ما رجع إليها الباحث اليوم، فسيلاحظ أنه من النادر أن تجتمع تلك الثلة من الفلاسفة لتتطارح ذلك الكم من الموضوعات التي كانت الظاهريات تحتل فيها طبعا مركز الصدارة.

كانت الظاهريات أيضا في الغالب في قلب المحادثات التي كانت تستأثر بالأمسيات الطويلة لدى غابرييل مارسيل. فقد كان هناك الفلاسفة لوسين، ولويس لافيل، الذ  ي كان ممتعا في سماعه مرهقا في قراءة كتاباته، ثم كان هناك حول كويري العديد من الزملاء اليهود الذين فروا من ألمانيا. وكان "ياسبرز وهايدغر" أيضا موضوعا آخر للمواجهات التي كانت مفاجآتها تفصح دائما عن التعجب التالي الذي كنا نسمع العزيز غابرييل مارسيل يردده عند احتداد النقاش: "يبدو لي أن الأمر خطير ... إنه لأمر خطير جدا...". وكانت تلك الخطورة تثقل أكثر فأكثر تفكيرنا الفلسفي.

كان هنالك أيضا مجموعة اللاهوتيين البروتستانيين الجدد الذين أقاموا مركزهم القيادي في مقر منشورات "جو سير"، التي كانت توجد وقتها بزنقة الفور بباريس. وطبعا، ففي بلاد كبلادنا، كان الجمهور بالضرورة قليلا، غير أننا كنا مع ذلك نحاول أن نستجيب لضرورة قناعتنا العميقة. لقد كنا نضع كامل آمالنا في كارل بارث من أجل التجديد في اللاهوت البروتستانتي. وفي سنة 1931-1932، أسسنا (أنا ودونيس دو روجمون، ورولان دو بّوري، وألبير ماري شميدت، وروجيه جيزكيل) مجلة صغيرة أطلقنا عليها "هنا والآن"، وكنا ننهج فيها نهجا ينم عن عنف الشباب الذي يثير ذهول المثقفين الأكبر منا كما الشباب منهم، الذين سوف يغدون كبارا وتعلمهم الحياة العديد من الأشياء. كنا نتقاسم اقتناع كيسيرلينغ القائل: "كارل بارث وأصدقاؤه يملكون بين أيديهم مستقبل البروتستانتية". وللأسف، فإن أوهامنا سقطت من عليائها، ولو كان العزيز رودولف أوطو لا يزال حيا، كان سيأخذني من يدي ليقودني لشليرماخر قائلا: "ألم أتنبأ بذلك قبلا؟".

ولم أعد بعيد ذلك أحس بالارتياح في "البارثية" وفي اللاهوت الجدلي. فقد أصبحنا نعتبر أنفسنا خلفاء روحانيين لكيركيغارد ودوستويفسكي.كان أمرا حسنا، لكنه لم يكن كافيا لخلخلة الفلسفة كما يروم ذلك أصدقائي. وكان السهروردي في ذلك الوقت قد أرسل لي بإشاراته، محذرا إياي بأن ذلك التزاحم، ما دام يتم باسم فلسفة لم تعد تستحق ذلك الاسم، فمن الممكن بلوغ حكمة فلسفة أخرى. من الصعب قياس مسؤولية شخص بالنظر إلى ما جاء بعده. لكن، كان من المستحيل عدم ملاحظة الهورة بين شرح "رسالة رومر" لكارل بارث ، ذات الشرارت النبوئية والمذهب العقدي الثقيل والهائل الذي  ألفه كارل بارث في مرحلة نضجه. هل كان ذلك "مذهبا عقديا جديدا"؟ لا لم يكن في الحقيقة ذلك ما كنا ننتظره، لهذا بدونا في مؤخرة  "البارثيين" الملتحقين به حديثا. وقد بعثت إلى بارث بمؤلّفي الجديد باعتباري مستشرقا: تحقيق وترجمة "حفيف أجنحة جبريل" للسهروردي. فاطلع عليه وحدثني عنه فيما بعد بابتسامة مرحة قائلا: "إنه لاهوت طبيعي". ولم يتجاوز الأمر ذلك، فظللت مشدوها. وكتبت له بخصوص ذلك الأمر (وربما كانت رسالتي  في سنة 1936 هي المحفوظة في "أرشيف بارث" بمدينة بال). وقبل ذلك كان مرور بارث الذي لا ينسى بمدينة باريس (1934). فكانت الفرصة لأحدثه عن اهتمامي بـ"اللاهوتيين التأمليين" في بداية القرن 19، أولئك الذين يسمون الهيجيليين اليمينيين والذين كانوا يقرأون هيجل بالطريقة نفسها التي يقرأون بها المعلم إيكارت. كنت أعني من بين من أعنيهم، فليب مارهاينيكي، الذي كنت أهتم به بشكل خاص. ولا زلت أتخيل دهشة وإعجاب كارل بارث، وأسمع صوته وهو يقول: "هل قرأت مارهاينيكي يا سيد كوربان؟" وأحسست لديه بتعاطف خفي ظل غير مفهوم لدي، مع هذا اللاهوتي "التأملي" المنسي تماما عن غير حق، بالرغم من أنه قابل لأن يصبح في يوم ما شخصية راهنة. ظل ذلك التعاطف سر كارل بارث، بحيث بِتنا أمام فجوة عالية بين "لاهوته الجدلي" وذلك اللاهوت الهيجيلي اليميني، الذي كان يقف بصرامة ضد العقلانية ، في الوقت الذي جعل فيه روتين ترجماتنا  من العقل مرادفا للـ" Vernunft"، بالرغم من أن الكلمة تحيلنا إلى الإغريقية "النّوس Noûs". كان المناخ الهيجيلي وما بعد الهيجيلي سوف يتغير لو أخذنا بعين العتبار ذلك.

وفي تلك اللحظة، وجدت نفسي أمام ملاحظة أولية هدامة. فـ"علم الأديان" كان في جزئه الأكبر من عمل اللاهوتيين البروتستانتيين. والحال أن لاهوت كارل بارث كان يدعو إلى نبذ كل علم للتاريخ أو الأديان. فهو يقترح بسذاجة أن الأديان من عمل الإنسان، فيما أن المسيحية كانت نزول الله نحو الإنسان ومبادرته، إلى حد أن المسيحية لم يكن لها أن تعتبر "ديانة". وهنا ليس ثمة من شيء أصيل، لأن شيئا من قبيل هذا كان قد قيل في الإسلام قبل كارل بارث بكثير. ولهذا الأخير كما للفقهاء الرسميين للإسلام ثمة الجواب نفسه: إنه جواب ابن عربي ومدرسته. فاللاهوت الجدلي البارثي الذي اختار عمدا التجاهل التام للشأن الديني، بدا عاجزا عن إدراك مهمة هذه "اللاهوت العام للأديان" الذي أصبحنا نحس بضرورته المستعجلة. فقد ظل متخلفا عن حلقة الديانة النبوئية كما يمثلها العرفان الشيعي خاصة مع حيدر أمولي (القرن 14م). فهناك حيث ترقبنا لدى كييسيرلينغ وعدا بمستقبل جديد، شهدنا في الواقع "لاهوتا لموت الإله"، ثم "لاهوتا للثورة"، ثم "لاهوتا لصراع الطبقات" يماهي بين ذلك اللاهوت والرسالة الإنجيلية. لكن، في اللحظات الكالحة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، لم يكن أحد ليتصور إفلاسا مروعا كذلك الإفلاس.

وربما كنت أنا بنفسي سأنساق إلى هذا الإفلاس لو أني لم أجد نفسي، بفعل فعل روحاني، منطويا على نفسي في عزلة تامة فلسفية ولاهوتية، وهي العزلة التي مكنت فلسفة أخرى ولاهوتا آخر أن يتلبَّساني. ثمة أمر ظل مجهولا على مر القرون من قِبل عقائدنا الوثوقية. إنه التضامن الحميم والسري بين "باطنية" الديانات السماوية، بحيث إن المسيحية إذا كانت انصاعت لمخاطر التاريخ، فإن الحج الطويل عبر إحدى هذه الديانات السماوية، وبالضبط العرفان الشيعي في شكليه (الإمامي والاثناعشري الإسماعيلي)، يجعل المرء يعود لاكتشاف مسيحية لا يزال مكانها موجودا في دورة الديانة النبوئية، غير أنها مسيحية تختلف عن الأشكال الرسمية للمسيحية التاريخية التي يصعب أحيانا على الإنسان العادي فهمها. لهذا سأتطرق الآن السنوات الطويلة لحج الذي تركني بعيدا عن أوروبا، فيما كان المسار المأساوي لتاريخها يتشكل.

وطبعا، فإنني لن أحيل للتبلور الخارجي لهذا التاريخ، كما يمكن أن يعيشه المرء في هذا الملتقى الذي هو إسطنبول في السنوات السوداء. سأكتفي بالحديث عن قصة الملكوت. ففي ربيع 1939، كلفت بمهمة تتمثل في جمع نسخ مصورة لكل مخطوطات السهروردي المتناثرة في مكتبات إسطنبول، بهدف القيام بتحقيق لمؤلفاته بالعربية والفارسية. وكان التاريخ المحدد للبدء في هذه المهمة هو فاتح شتنبر 1939. وفي ذلك التاريخ كان ذلك الهدف يبدو هشا بين الأحداث المتفجرة. لكن، بعد العديد من المفاوضات، رحلت أنا وزوجتي إلى إسطنبول في 30 أكتوبر 1939 ، مصحوبين بقلق جوليان كاين الأبوي. كانت المهمة تنحصر مبدئيا في ثلاثة أشهر. غير أنها دامت ست سنوات. وفي هذه السنوات التي كنت خلالها حارس المركز الثقافي الفرنسي الصغير للأركيولوجيا المجمدة أنشطته، تعلمت فضائل السكون التي لا تقدر بثمن، أي ما يسميه المتنوِّرون "سلوك السر" (بالفارسية: كتمان). وكانت إحدى فضائل ذلك السكون هو أن أكون لوحدي بصحبة شيخي اللامرئي، شهاب الدين يحيى السهروردي، المتوفى شهيدا سنة 1191م في سن السادسة والثلاثين، وهو عمري آنذاك. فطيلة النهار والليل، كنت أترجم من العربية، لا أسترشد في ذلك إلا بالشراح وأتباع السهروردي، متخلصا بذلك من كل تأثير خارجي ومن أي تيار فلسفي أو لاهوتي معاصر. وفي نهاية سنوات العزلة هذه، أصبحت إشراقيا، وكان المجلد الأول من تلك الترجمة جاهزا للنشر. صحيح أنه لم تمنح لي الفرصة للحديث عنه من حوالي، إلا مع أصدقاء أتراك من أصول بكْتاشية على سبيل المثال. ومن بينهم يظل يحيى كمال ماثلا في الذاكرة.

لكن إسطنبول كانت هي بيزنطة والقسطنيطينية، بالشكل نفسه الذي كانت به معبد سليمان مركز القدس، وكنيسة القديسة صوفيا (آيا صوفيا) مركز روما الجديدة. وفي السنوات السابقة، كرس العالم الأمريكي وايتمور كل جهوده لترميم فسيفسائها. كانت زيارة كنيسة القديسة صوفيا بصحبة وايتمور حظوة ومغامرة وزيارة مقدسة في الآن نفسه. كان في عقر داره، حارسا للمعبد، ويحتفي بنا أيما احتفاء واقفا معنا لوقت طويل أمام النور الداخلي للفسيفساء الساطع منها بحرية عجيبة. يلزم أن يكون المرء بصحبته كي يجعلك تولي الاهتمام لرسم متأخر يوجد في أعلى الجدار الداخلي الغربي الذي "يرقِّم" سر معبد الصوفيا. كان الرسم يمثل لقبة صغيرة ندخلها بسبع درجات. إنها إحالة لمعبد الحكمة ذي الأعمدة السبعة. "قل لصوفيا: أنت أختي. وناد على العقل صديقك". فالإشراقي حِكمي بالفطرة. كان معبد القديسة صوفيا بالنسبة لي معبد "الغرال Graal "، أو على الأقل تمثيلا لنموذجه الأصل الذي حدسه العديد من الباحثين في العرفان. وفي قاعة فسيحة كانت صالحة لتكون للساكريستيا (للموهف) كان يوجد رصيد هام ونفيس من المخطوطات العربية والفارسية. كنت أرتاد تلك القاعة مرارا للعمل فيها، وحين أعبر المعبد، كنت أنشد بصوت خافت موضوعات الغرال والعشاء السري والصوفي الأخير لبارسيفال في دراما فاغنر الموسيقية. ولم تفارقني من حينها تلك الفتوة الحكمية الصوفية اللامرئية، التي كانت معروفة أيضا لدى أفلاطونيي بلاد فارس. وسيجد القارئ الدليل على ما ألهمتني إياه في أبحاثي ومشاريعي حتى الأخيرة منها.

لكنني لم أكن أستطيع العودة إلى فرنسا من غير أن أزور بلادي المصطفاة، ومأوى اصطفائي، لأنها كانت موطن السهروردي شيخي اللامرئي. وفي 1944، توصلت بأمر بمهمة في إيران موجه لي مما كان لا يزال يعتبر آنذاك "حكومة الجزائر". وبما أنه كان علي انتظار أن يعوضني شخص آخر في منصبي  بمعهد الأركيولوجيا بإسطنبول، فقد كان علي أن أنتظر ذلك حتى سنة 1945 كي أقوم بتلك المهمة. وفي هذه الحالة أيضا كانت لا تتجاوز ثلاثة أشهر، غير أنها لا تزال منذ ذلك الوقت ممتدة لأكثر من ثلاثين سنة. وفي ذلك الوقت كان السفر من إسطنبول إلى طهران  أيضا يعتبر مغامرة غير مأمونة. كان هنالك السكة الحديدية "الاستراتيجية" حتى بغداد حيث ننزل على رصفة السكة. ثم استقلال السيارة من بغداد إلى طهران عبر سلسلة جبال زغروس. إنها رحلة متعبة لكنها حماسية. وكانت طهران التي استقبلتنا يوم 14 شتنبر 1945 لا تملك غير القليل من الأشياء المشتركة مع طهران اليوم. كانت سعة المدينة لا تتجاوز سعة إحدى عمالاتنا، وتضم ما يناهز ثمانمائة ألف نسمة. واليومتضاعفت مساحة المدينة بعشر مرات. وماكان في الشمال أصبح واقعا اليوم في الجنوب. وما كان عبارة عن صحراء غدا اليوم مدينة هائلة محاطة بشوارع رائعة مغروسة بالأشجار، بحيث أصبحت طهران اليوم مدينة ذات ثلاثة ملايين نسمة. والعربات الصغيرة التي تجرها الأحصنة (الدرشكي) كانت كافية للتنقل بالمدينة. أما اليوم فقد أصبحت حركة المرور، بسيارات المدينة التي تتجاوز المليون، لا تطاق وتتجاوز كل توقع زمني ممكن. كلهذا ومعه تكوُّن طبقة متوسطة لم تكن موجودة وقتها ليست سوى أعراض التطور العملاق الذي عرفته إيران خلال جيل من الزمن فقط. كان أمرا مثيرا أن أكون شاهدا  على ذلك، لكن هنا أيضا لا يتعلق الأمر إلا بوقائع خارجية أثيرها هنا.

وما كان هدفا لمهمتي بطهران، وكيف جهدت في إنجاز "المشاريع الضخمة والأفكار الشاسعة"، كانت لي فرصة قوله في نص صغير بعنوان "من المكتبة الوطنية إلى المكتبة الإيرانية" 1. وليس لي أن أكرر ذلك هنا. وعلي فقط أن أذكر الحفاوة التي استقبلت بها مشاريعي من قِبل أصدقائي الإيرانيين، وهي الحفاوة التي كان لها وزنها الكبير لدى السلطات الفرنسية لأجل إنشاء "شعبة الدراسات الإيرانية"، التي تم إلحاقها بالمركز الفرنسي الذي أنشئ من قِبل المديرية الفرنسية للعلاقات الثقافية، والذي دشن بطهران في بداية خريف 1947.

وكان الوقت قد حان لتطبيق المشروع الذي اختمر في ذهني على إثر دروس إتيين جيلسون. وكانت المهمة الأولى تتمثل في جمع الأدوات، وإنشاء مكتب للعمل والبدء في النشر. لم تكن شروط العمل في طهران حينها تماثل شروط اليوم، حيث نجد أن مجموعات المخطوطات تتمتع بثبت لجردها. ما كان يوجد في ذلك الوقت هو المكتبات، لكن من غير ثبت أو كاتالوغ للمخطوطات. وكانت سعادة الباحث تتمثل في الحظ، باعتبارأن الحظ يساعد عادة الباحث العنيد. شرعت حينها في نشر "المكتبة الإيرانية"، واستطعت السير بها لمدة خمس وعشرين سنة، وبمعونة مساعدين لي، إلى حدود المجلد الثاني والعشرين. وكان كل مجلد يتطلب مجهودا جبارا لأنه يُصنع كليةً في عين المكان. كانت السلسلة أساسا مجموعة من النصوص التي لم يتم نشرها قبلا، بالفارسية والعربية، وكل مجلد كان مصحوبا بترجمة كاملة، أو على الأقل بمقدمة مستفيضة تمكن الفيلسوف غير المستشرق من أن يستفيد أكبر استفادة من المجلد. وأعتقد أن هذه السلسلة، التي نفدت اليوم أغلب مجلداتها، قد نجحت في بناء صرح معين. وفي ذلك الوقت لم أكن أقدر على الحديث عن السهروردي، والملا صدرا وغيرهما، مع الشيوخ الأفاضل المحليين. أما اليوم، فثمة كوكبة كاملة من الباحثين الشباب أخذ على عاتقه بحماس قضية الفلسفة القديمة. ولن أخفي عليكم المصاعب. فلأجل إنشاء أو إعادة إنشاء تقليد فلسفي، ولتزوديه بكافة الأسلحة المفاهيمية والمعجمية الضرورية، يتطلب ذلك أجيالا عديدة. . وثمة دليل آخر يتمثل في كون العديد من الشوارع الكبيرة تحمل أسماء فلاسفتنا هؤلاء. وإحدى أجملها هو شارع السهروردي. لم يكن بالإمكان التجرؤ على تصور ذلك ثلاثين سنة قبل اليوم. ومن الجانب الغربي كان من اللازم الاقتناع البديهي بأن الفلسفة الإسلامية لا تقف عند أعتاب ابن رشد في القرن الثاني عشر للميلاد، وأن الفلسفة الإيرانية الإسلامية كانت تشكل قارة مكتملة بذاتها تم تجاهل استكشافها. واليوم أعرف فلاسفة شبابا بدأوا يتمثلون ذلك بحيث إن اسم السهروردي وآخرين يوجد في عروض ودراسات تلاميذهم. هنا يتمثل التجديد الفعلي.

وفي طهران، تلقيت في ربيع 1954 خبر كون قسم الدراسات الدينية ينادي علي لخلافة لويس ماسينيون.  في مديرية الدراسات الإسلامية. ولم يكن العزيز ماسينيون بغريب عن هذا الانتخاب. كنت أعرف همومه، ومهما كانت اختلافاتنا الفكرية، كان يعتبرني الأقرب إليه والأقدر على ضمان استمرارية الإدارة التي أرساها للبحوث، إن لم يكن ذلك في مستوى مضمونها فعلى الأقل في مستوى وجهتها وروحها. لكن، قبل ذلك، وبالضبط في ربيع 1949، كنت قد تلقيت نداء آخر سوف تظهر نتائجه منذئذ في برنامج وإيقاع أبحاثي.

وأنا أشير هنا إلى الدعوة التي وجهتها لي أولغا فروب-كابتاين للمشاركة في حلقة "إيرانوس" التي أسستها سنة 1932 بأسكونا (في تيسان، على ضفاف بحيرة ماجور)، والتي ذكرت في ما سبق المكانة التي احتلها فيها إلهام رودولف أوطو. كان لتلك المشاركة أن تترجم بمحاضرتين تدوم كل واحدة منهما ساعة من الزمن في شهر غشت من سنة 1949. ولم أكن أعتقد أن هذه المشاركة ستتكرر لمدة ربع قرن. وعما يشكله مفهوم إيرانوس، وما يشكل روحه وغائيته، ذلك ما قدمت شهادة بخصوصه في "دفاتر الهيرن"صحيح أن ما قدمته حلقة "إيرانوس" لما يقرب من 150 محاضرا الذين توالوا فيها لما يناهز النصف قرن، يختلف كثيرا وبالضرورة في الدرجة. فثمة من مروا بها فقط مرور الكرام، لمدة سنة أو سنتين لا أكثر، لأن ثمة إشارة غير محددة وملغزة، تنذر بأن لا طبيعتهم ولا سلوكهم نجحا في الانسجام مع غائية هي نفسها غير قابلة للتحديد. بالمقابل، هناك المجموعة الصغيرة التي غدا أفرادها من سنة إلى أخرى، ومن غير أن يتعمدوا ذلك، عماد مفهوم حلقة "إيرانوس". أما الدور الحاسم الذي كان لإيرانوس لدى هؤلاء، فيتمثل أولا في تمرينهم على امتلاك حقل تخصصهم، وتدريبهم على حرية روحانية كاملة. فكان كل واحد منهم يكتشف بواطنه تدريجيا ويطلق العنان للسان حاله. ولذلك ظلت كل وثوقية كنسية، أكاديمية أو جامعية، لتجمع أو لآخر غريبة كلية عن الحلقة. هذه الدربة على أن يكون المرء كلية و صراحة متوافقا مع نفسه أصبحت عادة لا يفقدها المرء، حتى ولو أصبحت خطيرة بندرتها. وكانت محاضرات كل دورة تنشر في مجلد ضخم بثلاث لغات. وقد بلغت السلسلة سنة 1978 مجلدها الخامس والأربعين، وأصبحت عبارة عن أنسكلوبيديا في متناول الباحثين في مجال علوم الرموز.وكل مجلد يمثل لكل مشارك ما يشبه المختبر الذي يجرب فيه المحاولة الأولى لبحث جديد.

كان يغذي روح إيرانوس هذا ويعضده تبادل وجهات النظر بين أولئك الذين يكونون الحلقة، التي ترمز إليها الطاولة المستديرة تحت أشجار الأرز، والصداقات التي ربطت بها طوال تلك السنين. بالمقابل، كان كارل غوستاف يونغ يعتبر فيها لمدة سنوات بمثابة العبقرية الوصية، بحيث كان يقدم الخلاصات الأولى لكتبه في محاضرات تجتذب إليها جمهورا غفيرا من زوريخ. كانت اللقاءات مع يونغ شيئا لا ينسى. وكانت لي معه العديد من المحادثات بأسكونا، وكوسناخت، وبولّينغن في حصنه حيث يقودني صديقي كارل ألفريد ماير. ما القول عن هذه المحادثات التي لا أرغب أن أترك بصددها أي لَبس؟ كنت أنا رجل ميتافيزيقا لا عالم نفس، وكان يونغ عالم نفس لا رجل ميتافيزيقا بالرغم من أنه غالبا ما حاذى الميتافيزيقا. كان تكويننا وأهدافنا مختلفين تمام الاختلاف، وبالرغم من ذلك كان التفاهم يسري بيننا تماما في حديثنا، بحيث حينما ظهر كتابه "الجواب على أيوب" الذي كان مشتتا بعنف بين كل المعتقدات، أردت أن أقدم له تأويلا في مقال طويل جعل مني صديقا له. وقد جعل هذا المقال منه متأولا للحكمة وللحكمة الإلهية. هل أجرؤ على القول بأن درس يونغ والحديث معه يمكنهما أن يقدما لكل رجل ميتافيزيقا، وكل رجل لاهوت، عطاء لا يقدر بثمن، شريطة أن ينفصل عنه المرء في اللحظة التي ينبغي فيها ذاك الانفصال؟ وأنا هنا أفكر في مقولة أندري جيد: "والآن يا نتانيائيل، ارم بكتابي بعيدا...". كان يونغ يدافع عن نفسه بقوة ومرح بكونه "يونغيا". وأنا بنفسي كنت صديقا ليونغ، ولم أكن أبدا "يونغيا". وأنا أوضح ذلك، لأن العديد من القراء يعتقدون أنك حين تفضل مؤلفا لمرات عديدة يكفي ذلك كي تكون أحد تابعيه.

ومن دواعي دهشة الفيلسوف لدى عالم النفس يونغ، هو الصرامة التي كان بها يتحدث عن النفس وواقع النفس، وتمرده ضد تحلُّل النفس التي كان يقود إليها بسعادة التحليل النفسي لدى فرويد، ومختبرات علم النفس وغيرها من الاختراعات التي صارت خصوبة عالمنا اللادري واضحة فيها. أليس من الدلالة بمكان أن من بين مصطلحات يونغ كـ"اللاوعي الجمعي" أو "سيرورة التشخُّص" لا نأخذ في فرنسا غالبا إلا بالأول، وذلك للتوكيد على كلمة "الجمعي"؟ وأنا أتخوف من أن يتم التمادي في سوء الفهم هذا. وهذا التحفظ الفوري يجعلنا مرتاحين لتثمين ما كان يونغ أول من انتبه إليه بتبصر وعبر عنه بمفهومي "الأنيما" و"الأنيميس"، بالرغم من أن الاستعمال الذي يخصص لهما مع الأسف لاحقا أصبح يشبه كثيرا جهازا آليا يطبق، مهما اتفق، على أي حالة. بيد أن الطريق الذي سار بنا فيه يونغ كان هو اكتشاف الصورة الباطنية. فالتعرف في وجه من الوجوه على ملامح وسطوع هذه الصورة يعني لا الحركة النافلة الناجمة عن بحث خارجي واه للمتعالي، وإنما فهم أن تلك الصورة موجودة أولا في داخلي، وأن هذا الحضور الباطني هو الذي يجعلني أتعرف عليها في الخارج. وفيما بعد أصبحت منغمسا، ولا زلت، بميتافيزيقا الخيال الفعال، وبما دفعني فلاسفتي الإيرانيون إلى تسميته بعالم المثال أو العالم التصوري imaginal، تمييزا له عن المتخيل imaginaire الخالص، أي عالم الأشكال الخيالية الذي يعني بالعربية عالم المثال. بيد أنه كان علي ملاحظة ما يلي: كل ما يصرح به عالم النفس عن الصورة يأخذ لدى الميتافيزيقي معنى ميتافيزيقيا. وكل ما يصرح به هذا الأخير يتأوله عالم النفس بعبارات نفسانية. من ثم ينبع سوء التفاهم الممكن. لهذا قلت فوقه بأنه بعد أن يفهم الواحد منهما الآخر، من الضروري الانفصال في الوقت المناسب.

يسري هذا الأمر على كل الأبحاث الرائعة التي قام بها يونغ. فأعماله عن الخيمياء تقوم على أبحاث واسعة وعميقة، وكل باحث في الكيمياء عليه أن يقرأها ويمتح منها. ومن هذه الأبحاث استنبط يونغ فكرة "عالم الأجسام اللطيفة". كان حدسه صحيحا وبعمق. فعالم الأجسام اللطيفة هذا قد حدده وموقعه بصرامة حكماء التصوف القدماء في الإسلام: إنه العالم الوسط حيث تتجسدن الأرواح وتتروْحن الأجساد. إنه بالأدق عالم الخيال، وعالم النفس والملكوت، أي العالم الأول للملاك. بيد أن عالم النفس الغربي، مهما كانت رغبته في إعادة النفس وعالم النفس إلى مكانتهما، لا يزال ينقصه امتلاك ذلك الأساس والتأطير الميتافيزيقي الذي يخلص على تصورية وفوضى وخرَف المتخيل من الهلوسة والجنون. لكن، بما أن هذا التمييز الجذري والحاسم ليس بُعدا مقبولا بشكل واسع، فإنني أتفادى أن أتحدث أمام عالم النفس عن الملاكي وعلم الملكوت angéologieاللذين احتلا مكانة كبرى في أبحاثي. ولتقارنوا بين تأويل رؤى الأنبياء من قِبل قبالي أو من قِبل العرفان الشيعي مع التحليل الذي يقدمه عالم النفس. لا تزال ثمة "أعالي شاهقة" بين الاثنين. ففقدان التصوري وعالم المثال في الغرب هو: مجمل التيار المتحدر من ديكارت وب. ميرسين، في تعارضه مع أفلاطونيي كامبريدج، ومع كل ما يمثله ج. بوهم، وسويدنبرغ، وأوتنغر. إنها "حرب كاملة من أجل روح العالم" علينا خوضها. وسيكولوجيا يونغ يمكنها بشكل مناسب تمهيد الطريق لذلك، بيد أن الانتصار النهائي يعود لأسلحة أخرى ليست هي أسلحة علم النفس.

لقد ألححت قبلا على حالة يونغ وأعماله الهامة، لأن الود الذي كان بيننا ليس سرا، وأيضا لأني أرغب في رفع كل لَبس يجعل مني عالم النفس الذي لسته، أو يجعلني أنهم "بالنزعة النفسانية" التي حاربتها على الدوام. فضلا عن ذلك، كانت دورات حلقة إيرانوس مناسبة للعديد من اللقاءات المستمرة التي لا تنسى: مع أدولف بورتمان، الأستاذ في علوم الطبيعة تبعا لمنظور جوته؛ جيرار فان لوو، الفينومينولوجي الهولندي الكبير للشأن الديني؛ د. ط. سوزوكي، شيخ البوذية  "الزين" ؛ فكتور زوكركاندل، الفينومينولوجي الفريد للخطاب الموسيقي؛ إرنست بينز، الذي لا يجهل أي حركة دينية في الماضي أو الحاضر؛ جلبير دوران؛ أصدقاء ميرسيا إلياد، جيمس هيلمان، ولن أقدر على تسميتهم كلهم بأسمائهم. على كل حال، ليكن صديقي جيرشخوم شوليم، الذي تدين له الدراسات القبالية بتجديد كامل في مرتبة متميزة بينهم. فمؤلفاته الهائلة تظل لدينا منجما لا ينضب. بل إنها تجعلنا نفهم ضرورة لا يمكن تفاديها تتمثل في أننا من الآن فصاعدا لا يمكننا الفصل بين كل أشكال الباطنية في "الديانات الثلاث الكبرى للكتاب".

وبعد أن توصلت بطهران في ربيع 1954 بخبر أن تصويت مجلس قسم الدراسات الدينية بمدرسة الدراسات العليا يدعوني إلى خلافة لويس ماسينيون، تنازعني للتّوّ فرح عارم، وهو ما كان أمرا بديهيا، ومعه قلق غامر. فقد كانت أبحاثي ومنشوراتي بطهران قد أخذت انطلاقتها. وكانت شعبة الدراسات الإيرانية الصغيرة قد بدأت تفرض حيويتها. والاستمرارية لم تكن مضمونة من دوني. فما سيكون مصير كل هذا إذا ما فرض علي رجوعي إلى باريس تركه؟ بيد أن الحل الإداري لم يلبث أن ظهر في الأفق. فبالتوفيق بين وقت إجازاتي والإذن المنتظم بالغياب، يصبح بإمكاني التوفر على فصل الخريف بكامله كي أتابع أشغالي بطهران. وهكذا، ومن سنة لأخرى، أصبحت أستقل الطائرة لطهران في شهر شتنبر حيث كنت أظل إلى حدود شهر دجنبر. كان استمرار حياتي الإيرانية حاسما في توجيه مضمون دروسي بمدرسة الدراسات العليا، الذي لم يكن له أن يستوي في صورته لو لم أستطع الحفاظ على التواصل مع أصدقائي وزملائي الإيرانيين، ومعرفة منشوراتهم، ومتابعة منشورات المكتبة الإيرانية، والاستمرار في إغناء عتادي المخطوط بالنسخ المصورة. كانت أغلب دروسي في مدرسة الدراسات العليا بباريس تنجز انطلاقا من مخطوطات لم تنشر بعد. وفي كل سنة كنت أقدم عنها ملخصا طويلا في حوليات قسم العلوم الدينية. وهكذا أصبح من السهل تتبع تطور أبحاثي.

وقد بلغتني فعلا من حين لآخر إشاعات خفية تشكو من كوني قد حولت مديرية الدراسات إلى كرسي للتشيع. وإذا كان هذا النقد قد تم التصريح به، فهو كان ينطلق من وجهة نظر خاطئة. فقسم العلوم الدينية لم يكن كلية للاهوت ذات برنامج يقسم الدراسات إلى عقائد. إنه بؤرة بحث فريدة في العالم، كما أعتقد، في مجال "العلوم الدينية" وكل واحد منا يوجه بحرية أبحاثه وتدريسه في الوجهة التي تبدو له ملحة سواء كانت تلك الوجهة قد ظلت إلى حدود ذلك الوقت منسية، أم أن سندا وثائقيا جاء ليغير كلية وجهات النظر القائمة بصددها. وأنا أعتقد أن دراسات التشيع الاثناعشري والإسماعيلي، مثله مثل دراسة الميتافيزيقا والتصوف كانت تشكل أمرا ملحّا من وجهة النظر المزدوجة هذه.

لهذا لم أكن لأفاجأ إذا ما أثارت منشوراتي بعض الدهشة، أو بعض المقاومة المشكِّكة. فلم يكن أحد قد سمع بأن ثمة فلسفة شيعية أصيلة ومخصوصة. وكان الكل يجهل الرسائل الإسماعيلية الجديدة ، أو المخطوطات التي غدت بفعل القدر في متناول الجميع. ولم يحمل أحد قبل ذلك محمل الجد مشروع السهروردي الساعي إلى "بعث الحكمة الإلهية لحكماء بلاد فارس القديمة"، لأن الكل كان يجهل سبل تطبيقه، في الوقت الذي ترك فيه هذا المشروع بصماته على جزء هام من الفكر الإيراني اللاحق، بل إن هذا الأخير هو ما كان الناس يجهلونه تماما. كان القراء يعرفون الزّهاد الورعين لبلاد الرافدين في القرون الأولى للهجرة، لكن لم يتم الانتباه بما يكفي لتنوع ما يمكن تسميته "ميتافيزيقا التصوف" لدى ابن عربي ونجم الدين كبرى، والسمناني وحيدر أمولي، إلخ. كان المختصون يطابقون بين التصوف الإسلامي والتصوف عامة، ويجعلون من التشيع عدوا للتصوف، لأنه كان أحيانا قاسيا على نوع معين من التصوف. وكان من المجهول أن التصوف الإسلامي mystique islamique، والتصوف لا يتطابقان تماما، وأن ثمة تصوفا وعرفانا شيعيا خارج التصوف، بل خارج الطرائق الصوفية الشيعية الصريحة... وكل هذا لأن وضعية المؤمن الشيعي تجعله منذ البدء، وبخلاف المؤمن السني، على الطريقة الصوفية. وطبعا لنكن عادلين: فالعرفاء الشيعيون، أو ملا مثل الملا صدرا الشيرازي، كانوا عرضة لمضايقات زملائهم، أي لما يمكمن أن نسميهم رجال الدين الشيعة. بيد أن ذلك لم يفعل سوى توطيد علاقتهم بمصير إخوتهم العرفاء في كل مكان وزمان.

هذه السطور لا تقوم سوى بإثارة بعض جوانب المهمة الجسيمة التي وجدت نفسي إزاءها إذا ما أنا أردت لمشروعي، الذي نما في ذهن الطالب الشاب لإتيين جيلسون الذي كنته، أن يتبلور. فقمت لا بخطة خماسية وإنما بخطة تمتد لعشرين سنة. وهي خطة اكتملت أهدافها بالتقريب، وبفضل السماء لا زلت أتابع إنجازها في سنوات التقاعد. أما كيف بلورت وحددت مهمتي، فقد كانت المناسبة لقول ذلك في مجلد جماعي نشره الزملاء في قسم العلوم الدينية. فقد كان ذلك في الآن نفسه "برنامجا ووصية". والنص أعيد نشره في دفاتر الهيرن. وليس لي أن أستعيد هنا إشاراته، بالشكل نفسه الذي لا يمكنني في هذه التذييل البيوغرافيي أن ألخص الأطروحات الكبرى التي دافعت عنها في كتبي.

لكن ما يلزمني قوله الآن هو ما يلي: إننا لا نعيش لأكثر من ثلاثين سنة مع أفضل ما أنتجته فلسفة ثقافة ما وروحانيتها، وبالأخص فلسفة وروحانية عالم روحاني من قبيل العالم الإيراني من غير أن يتلون المرء بلونهما. أكيد أنني ظلت غربيا (بالمعنى الأرضي للكلمة)، لأنني باعتباري غربيا استطعت النجاح. لكن هناك من جهة أخرى كل ما يستطيع الفيلسوف القيام به جيدا، أعني أننا لا يمكن أن ننجح في تأليف كتاب عن أفلاطون، مثلا، إلا إذا كنا أفلاطونيين، على الأقل لحظة كتابته. ذلك هو يصعب على مؤرخي الأديان فهمه من حيث هو كذلك. وأتذكر أن زميلا من بلد بعيد، وقد سمعني، في مؤتمر دولي منذ عشرين سنة، أتحدث عن التشيع بالمصطلحات التي اعتدث الحديث بها عنه، همس لصديقه: "كيف يمكن لأحد أن يتحدث بهذه الكلمات عن ديانة ليست هي ديانته؟" لكن أليس ذلك هو معنى "تملك" ديانة ما أو فلسفة ما؟ ثمة للأسف أناس لا يمكنهم أن يفكروا إلا بمصطلحات "اعتناق ديانة أخرى"، وهو ما لا يمكّنهم من أن يلصقوا بك يافطة جماعية. فالحديث عن "اعتناق ديانة أخرى" يعني عدم فهم أي شيء في "الباطنية". والفيلسوف يعرف جيدا أن كون المرء أفلاطونيا، لا يعني التسجيل في كنيسة أفلاطونية ما، ولا أبدا الامتناع عن أن يكون المرء شيئا آخر غير أن يكون أفلاطونيا. فكل عارف من عرفاء الشرق والغرب، لا يمكنه أن يفكر في الأشياء ويزنها إلا بمصطلحات الباطن والاستبطان، وهو ما يعني أن يجعل المرء من نفسه مسكنا دائما للفلسفات والديانات التي ينحو نحوها بحثه ومسعاه. ولا يمكنه سوى أن يحفظ سره، سر قلعة النفس. وهو لا يُظهِر هذا الواقع الباطن العميق أبدا في بعد خارجي ذي طابع سوسيولوجي، بل في العمل الشخصي الذي ينتج، والذي يساهم في تخريجه كل أنماط الوجود المعيشة. فأمة الباطنيين هي دائما وأبدا تلك "الكنيسة الداخلية" التي لا تفرض أي انتماء كي يكون المرء منتميا لها.

بيد أن ذلك الرابط الداخلي هو الرابط الحق، لأنه غير قابل للإدراك وذو مناعة، ولأننا في هذه الحالة فقط يحق لنا القول بأن "اللسان لسان حال فيض القلب". وذلك هو ما أعتقد أنه قد سهل على أصدقائي الإيرانيين مقابل تلك السنوات الطوال من العمل المنذور لما نحبه جميعا، أن يشهدوا لي بصداقة متجردة من أي خلفية، صداقة كانت ولا تزال كنز حياة طويلة، من دون أن ننسى ذكرى الراحلين من بينهم. وقد بدت تلك الصداقة بشكل أكثر تأثيرا حين بلغت سنة 1973 ما يسمى "سن التقاعد". وكان علي هذه المرة أن أودّع إيران. لكن لم يكن الأمر كذلك. فمن صدف القدر أن أُنشأت حينها "الأكاديمية الإيرانية للفلسفة"، والتي تقبلتني عضوا فيها. إنها مؤسسة تضم الفلاسفة وتقترح في الآن نفسه تكوين باحثين شباب إيرانيين في الفلسفة، ومساعدة الفلاسفة من كل الأقطار الأخرى على القيام بأبحاثهم في إيران. كان ذلك مهمة مزدوجة ومستعجلة وطويلة النفس. وفيها يتم نشر الكتب، وممارسة التدريس والقيام بالمحاضرات. وهكذا وبالرغم من أني تركت شعبة الدراسات الإيرانية في المعهد الفرنسي، ظللت أقضي في طهران دورة الخريف التي كرستها للتدريس في أكاديمية الفلسفة. من جهة أخرى، ألمحت سابقا إلى الحظوة التي نتمتع بها في مدرسة الدراسات العليا المتمثلة في متابعة المحاضرات حتى بعد التقاعد بل حتى النفَس الأخير إذا نحن رغبنا في ذلك. وهكذا استمررت في اقتسام نشاطي بين باريس وطهران، وهو ما سيمكنني على ما آمل من الانتهاء من بعض المهام الكبرى التي قمت بها.

وفي طليعة هذه المهام التي لم تكتمل بعد علي أن أضع المشروع الذي يتحدث عنه في "دفاتر الهيرن"، هنا، صديقي سيد جلال الدين الأشتياني، الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة مشهد. والأستاذ الأشتياني من دون شك هو الرجل الأكثر تمثيلية للخط الفلسفي للملا صدرا في إيران اليوم. وما جمعه من مادة أمر خارق. وبما أنه نذر نفسه ليلا ونهارا لهذه المهمة، فإنه بشكل ما الملا صدرا مبعوثا، وفيلسوف عرفاني غزير الإنتاج. وقد بلورنا مشروعنا سنة 1964-1965. وجوابا على أولئك الذين اعتبروا، منذ إرنست رينان، أن مصير الفلسفة الإسلامية انتهى في القرن 12م مع وفاة ابن رشد، كان مشروعنا يتمثل، كما ذكّرت بذلك سابقا، في إنتاج أنطولوجيا موسعة للفلاسفة الإيرانيين منذ القرن 17 حتى يومنا ذاك. كان السيد الأشتياني مكلفا بتقديم النصوص، أما أنا فقد كلفت بتقديم ملخص لها باللغة الفرنسية، بحيث يستطيع الفلاسفة الغربيون غير المستشرقين أن يكونوا على علم بذلك. وكانت بعض تلك النصوص منشورة في طبعات حجرية قديمة، بيد أن أغلبها كان لا يزال مخطوطا.

وكنا قد توقعنا نشر خمس مجلدات من الحجم الكبير. ونحن نعتقد اليوم أنها ستكون سبعة. وقد ظهر منها المجلدان الأولان. وانتهينا من طبع القسم العربي والفارسي (ما ينيف عن 800 صفحة)؛ أما المجلد الرابع فهو قيد الطبع. وقد فكرت في جمع الأقسام الفرنسية في مجلد مستقل يمكّن من تقديم متوالٍ للفسفة الإيرانية الإسلامية. يتعلق الأمر بمؤلفات أربعين فيلسوفا تمكّننا من إظهارهم للنور وإدخالهم في المدار الفلسفي العام. وبالرغم من عظمة هذا الصرح، فلا تزال خطاطته غير مكتملة، فبالنظر إلى شساعته، كان علينا أن لا ندرج فيه بعض المدارس المستقلة. لهذا فقد أقنعنا أصدقائنا في التيار الشيخي أن ينشروا أنطولوجيا لمشايخهم. فمنذ الشيخ الأحسائي (1826م)، ظل تلامذته الذين يمكن أن نجمعهم تحت راية "مدرسة كرمان" غزيري الإنتاج، بحيث تركوا لنا ما ينيف عن الألف عنوان. وكل هذا سيمكّننا في النهاية من الوقوف على أصالة وعمق وتنوع مناحي الفلسفة والحكمة الصوفية التي مكَّن الإسلام الشيعي من ولادتها في إيران، أو إذا شئتم، التي مثلت فيها إيران الإسلام الشيعي.

وما قد يفاجئنا هو أنهم في الغرب لم يبدأوا يتحدثون عن كل هذا إلا اليوم. وفعلا، ومنذ زمن، اهتم المتخصصون في الفلسفة الوسيطية بفلاسفة الإسلام هؤلاء وبفضل الترجمات العربية التي تمت في القرن 12م، بحيث إنهم ساروا على نهج سابقيهم وظلوا ينعتونهم "بالفلاسفة العرب"، خالطين بشكل خطير بين "الإسلامية" والعربية". وفي الجانب الآخر من إيران، كان فلاسفة ومتصوفة الهند منذ وقت طويل موضع اهتمام البحث العلمي، وكذلك الآمال الروحية الباحثة عن "الطريقة". وظل العالم الإيراني، هنالك بين العالم العربي وعالم الهند، مجهولا. فقد كان يتم الاكتفاء، ولا زال الأمر كذلك، بترديد ترهات كبرى تتعلق بالعالم الشيعي؛ والحال أنه ليس من قبيل الصدفة أن الروحانيات الفلسفية السامية وجدت مأواها الطبيعي في إيران. وأنطولوجيتنا تعرّف بأفضل وأعمق ما أنتجه الإسلام الروحاني. فهنالك مثلا مفهوم الصادر الأول premier émané [أي العقل الكلي]الذي يربط مع الأفلاطونية علاقة تفترض "الفلسفة النبوئية" الخاصة بالتشيع وتفتح آفاقها في الآن نفسه. وثمة أيضا الإلحاح على ذلك العالم الوسط والوسيط، عالم المثال، الذي ألمحت إليه فيما سبق والذي تحدثت عنه في كتبي بحيث لا مجال لبسطه هنا. فمن غير الوظيفة التوسطية لهذا العالم الذي يضمن التمفصل بين المعقول الخالص والعالم المحسوس، نجد أنفسنا محرومين من المفتاح التأويلي الذي يفتح لنا أبواب المعنى الواقعي الحق والمحسوس، أي "المكان" الواقعي لرؤى الأنبياء والمتصوفة. والدليل على ذلك أن العديد من علماء النفس الغربيين الذين لا يستطيعون أن يروا فيها سوى هلوسات وانفصام في الشخصية، إلخ. فعالم المثال هو فعلا "مكان" الوقائع التي تتم في الملكوت، أي عالم الملائكة الذي يحتل مكانا كبيرا لدى السهروردي ولدى متأوله الفرنسي. فمن غير عالم المثال من المستحيل الحكم لصالح واقعية الوقائع المحيطة بعودة الإمام الثاني عشر، والانبعاثات والتناسخات أو الرجعات المستقبلية. ومع ذلك، فبفضل هذه الشخصية العجيبة، التي يطابقها بعض المفكرين مع روح القدس اليوحناوية، تتواصل مجموع "الشبكات الباطنية" للعرفان، ولديانات الكتاب.

 

وها أنا أجعل مما قلت مدخلا للموضوع الذي أريد أن أختم به هذه التذييل، أعني انبثاق مشروع يمثل لي الازدهار الروحاني لممصنفاتي العلمية، وفي الآن نفسه منتهى حلم شباب. لقد تطرقت سابقا لتجوالي في معبد القديسة صوفيا بإسطنبول كما في معبد الغرال. يبقى أن أذكر هنا "مركز الدراسات الروحانية المقارن"  الذي أنشأناه بمعية بعض الأصدقاء والزملاء الجامعيين، والذي أطلقنا عليه اسم "جامعة القديس يوحنا المقدسي" لأننا كنا جامعيين. وكانت روحه تتمثل في ضربٍ من الفتوة الروحانية كما حددت في القرن 14م من قِبل رولمان ميرسوين، حين أهدى قيادة الجزيرة الخضراء للفرسان اليوحناويين. ففي نظر رولمان ميرسوين، كما في نظر "أولياء الله" في تلك الفترة، كانت الفتوة الروحانية تتميز بحالة روحانية "لم تكن هي حالة القس ولا حالة العلماني"، لأنهم كانوا يعتقدون أن "زمن الرهبنة" كان قد فات. وعلينا أيضا اليوم، بعد الإفلاس الناجم عن خيانة الرهبان، أن نؤسس حالة للإنسان الروحاني لا تكون حالة القس ولا حالة العلماني. أما غائية مؤسستنا، فكانت تتمثل في أن نهيئ أخيرا في مدينة المقدس بؤرة مشتركة لا سابق لها لدراسة العرفان المشترك بين الديانات الإبراهيمية الثلاث وتخصيبه روحانيا؛ باختصار، تنبني فكرة التوحيد الإبراهيمي للديانات الثلاث على جمع الكنز الخفي لمذهبهم الباطني، لا على المجاملة الدبلوماسية للعلاقات الرسمية.

ولتفسير انبثاق هذه المبادرة، التي لن أستطيع أن أقول عنها كل ما يجب قوله، علي التطرق لكل البحوث والتقاليد التي توافقت في مشروعنا لجامعة القديس يوحنا المقدسي (وهي قانونيا وتصوريا مستقلة عن كل نظام يحمل الاسم نفسه). تحدثت فيما سبق عن حالة السهروردي الذي لم يكتف بمحاورة البقايا الممكنة للماضي الزارادشتي لإيران، بل إنه تكفل به بعزم وحزم، فاتحا أمامه في الآن نفسه أبواب المستقبل. وإرادة البعث هذه تتماشى تماما مع تصورات السهروردي وتابعيه، المتمثلة في بحث فلسفي لا يفضي إلى إنجازٍ روحاني شخصي، وإلى إضاعة الوقت بلا جدوى، ، وفي كون البحث عن تجربة صوفية من غير تكوين فلسفي جاد مسبقا، سيكون له حظ التيه في الإسقاطات والأوهام والضلال. وفي العمق، ذلكم هو المظهر الذي تأخذه في حياة الفيلسوف فكرة ما يسمى بالفارسية "جافان مردي"، أي الفتوة، والتي تترجم إلى الفرنسية ب: chevalerie spirituelle(فروسية أو نبالة أو فتوّة روحانية). وكل ما يدل عليه هذا المصطلح شكَّل مجالا للتلاقح فرضت نفسها علينا.

إن رسم مسير هذه التلاقحات يعني بالأساس أن نبين، ضمن الآفاق الباطنية لديانات الكتاب، الانتقال من الملحمة البطولية إلى الملحمة الصوفية؛ أي الانتقال من الفتوة العسكرية إلى الفتوة الصوفية، أو ما تسميه الروحانيات الإسلامية، الانتقال من الجهاد الأصغر أي حرب الأسلحة في العالم الخارجي، إلى الجهاد الأكبر أي المعركة الروحانية  القائمة في المجال الباطني لكل إنسان، لكن أيضا في حقل الخارق ذي الأبعاد الكونية.

وهذا الانتقال نراه يتحقق لدى السهروردي وتابعبه، الوريثين لتلك الأخلاقيات الزارادشتية التي قال عنها بحق أوجينيو دورس إنها تفضي إلى تشكيل نظام للفتوة. وهو نظام يتحقق في الإسلام الشيعي في مفهوم "أولياء الله" (بالفارسية: دستاني خودة)، وغدا من الممكن الموازاة بين فكرة صحابة الساوشيانت الزارادشتي وفكرة صحابة الإمام الثاني عشر للشيعة. باختصار ثمة كل ما يعبر عن نفسه في مصطلحي "جوانماردي" والفتوة باعتبارهما أسلوب حياة يقترح على كل واحد حسب حاله، ذلك أن كل حال يتضمن "فتوة" مخصوصة به. هذا الانتقال إلى الفتوة الصوفية وجدناه يحقق في القرن 14م في الغرب، كما ذكرت ذلك قبل قليل، حين أوكل رولمان ميرسوين (+ 1382) صرحه بالجزيرة الخضراء إلى الفرسان اليوحناويين، فاتحا أمامهم طريقة روحانية ترتبط أوثق ارتباط بتصوف يوحنا طاولر. هنا أيضا ظهر من جديد مصطلح "أولياء الله" (Gottesfreune)، وستنتشر فكرة الفتوة الروحانية في التصوف الريناني بكامله. هذا الانتقال نفسه هو الذي سيتم من النظام العسكري للفتوة العماديين الذين شاركوا في الحروب الصليبية، إلى النظام الصوفي الهيكلي لفرسان الغرال، في حلقة بارسيفال لوولفرام فون لشخنباخ، والتيتورال الجديد لألبريخت. وفي النهاية، فإن من أعاد بناء المعبد حول الأمير زوروبابل إذا كانوا هم في الحقيقة الفرسان الأوائل للمعبد، فإن نظرية نشأة الكون القبالية  لعيسى لوريا تستدعي "أبناء النور"  إلى خدمة فروسية صوفية، كما كانوا يُستدعون إليها من قِبل المجموعة الإسّينية لقُمران، وذلك من أجل معركة روحانية تتوافق فكرتها بعمق مع نظرية الكون والأخلاقيات الزارادشتية، في معزل عن كل تسلسل أو تأثير معين، سواء كان قابلا للبرهنة أم لا.

وعموما، هذا ما أردنا تمثله في تصورنا لجامعة القديس يوحنا المقدسي (وهو ما رسمت ملامحه في نهاية الجزء الرابع من كتابي: عن الإسلام في إيران). طبعا ليس لنا أن ننتظر أن يتم الاعتراف بنظام "الفتوة الروحية" هذا إلى جانب أنظمة شرَفية وتاريخية أنشئت خلال قرون من قِبل القوى العظمى العالمية. بل إن فكرة اعتراف من قبيل هذا نافلة ، ذلك أن الفتوة الروحية حالة تنتظم وفق آخرة هذا العالم، فيما أن غائية الأنظمة الأخرى تنتهي بالخطب التي تتلى في الجنائز. لقد اندثر نظام المعبديين رسميا خلال المأساة الرهيبة التي دبرها له خصومه. بين أن فكرة نظام المعبد، باعتباره محورا لتقليد باطني سابق حتى على النظام التاريخي الذي يحمل هذا الاسم، ولاحق عليه، هذه الفكرة لم تندثر أبدا، لأن ليس ثمة من قوة في الدنيا يمكنها أن تمنع نفسا ما أن تمنح لنفسها التعالي الروحاني الذي اختارته لذاتها، ومن إضفاء الشرعية  على هذا التعالي بوفائها لمؤدياته. وكما كتب ذلك أونانومو، من المفيد الاعتراف بأن "الماضي انقضى، وأن لاشيء يوجد في الحقيقة إلا ما هو فاعل، وأن إحدى تلك الخرافات، كما نسميها، حين تدفع الناس للفعل، بتهييج قلوبهم أو بمواساتهم في حياتهم، أكثر واقعية مئات المرات من حكاية فعل معين يتآكل في الأرشيف".لهذا فإن المرجع الحقيقي هو الإحالة إلى ما سماه حكماء التصوف المسيحيون، كإيكارتهاوزن في القرن 18م، بالاسم الذي أطلقته بنفسي فيما سبق "الكنيسة الباطنة"، والتي ليست سوى اسم آخر لروحانية المعبد تلك المشتركة بين حكماء التصوف في الديانات الثلاث الإبراهيمية. هذه الكنيسة الباطنية هي المكان الوحيد للفتوة الروحانية المنتظمة في المعبد الصوفي، والوحيدة التي يمكنها أن تجيب بعمق على ضروراتنا الراهنة، والتي ينبغي على الباطنية الحفاظ عليها من التنويعات والتكييف مع التقليعات الدنيوية. هناك فقط، في تلك الكنيسة الباطنة يمكن تصور المهمة اللامشهودة والمفارقة المفروضة علينا اليوم، المتمثلة في العثور على ربنا ضد الإله. ما القول في ذلك؟

لقد خلطت قرون من اليقينيات اللاهوتية والوثوقية الحاسمة بين العلة الأسمى للكون، أي المبدأ السامي اللامعروف للإنسان في شرطه الحاضر، مع الرب الشخصي والمشخْصن. وحين تمت علمنة هذه المفاهيم تحولت إلى إيديولوجيات كليانية. ومحاكم التفتيش لا تزال تسود سيادة مطلقة أكثر من أي وقت مضى. فتلك المفاهيم اللاهوتية كانت ذات ارتبط بالمفاهيم العلمية لوقتها، سواء مع يقينيات المنطق العقلاني، أم حين انهارت تلك المفاهيم مع العلوم المسماة اليوم علوما إنسانية أو اجتماعية.  هكذا هيأت الديانات التوحيدية الظاهرية للفراغ الكبير الذي فيه ترسخ صدى الصياح الجماعي: "مات الإله". لكن أي إله ذاك؟ فالعرفان، سواء كان عرفان ابن عربي أو إسحاق لوريا قد انتبه دائما لخطر هذا الخلط بين العلة الأسمى والرب الشخصي، لأنه لم يخرق أبدا مبدأ اللاهوت التنزيهي، ولا ضل عن معنى ما تشكله في الجوهر التجليات وضرورتها. إن العثور على ربنا ضد ربنا يعني العثور على ذلك الرب الذي له يستجيب المرء، وهو تحرير ربنا من الوظائف التي ليست له والتي حين أدخلت إلى مفهومه مكّن ذلك العلم الوضعي، الذي لا يهمه الأمر، من التصريح رسميا بموته. لا حرية أبدا لنا إذا لم نحرر ربنا من ذلك باعتباره رفيقنا في المعركة. والعثور على ربنا ضد إله كل الأنظمة، وكل الوثوقيات وكل السوسيولوجيات، يعني الإحساس بأن ربنا إذا كان يوجِدنا لأجله فلا وجود له من دوننا. فمسؤوليتنا إزاء حياتنا الخاصة ومماتنا الخاص يجعلنا في الوقت نفسه مسؤولين إزاء حيات وممات ربنا.  فحياته أو مماته تفترض حياتنا الخاصة أو مماتنا الخاص، والحياة والموت هنا لا بمعناهما البيولوجي وإنما بالمعنى العرفاني للحياة الأولى الآتية من عالم النور.

كيف يمكننا ن نقدم أفضل من ذلك الالتزام اللامشهود "للفتى الروحاني" في بحثه عن ربه، ولـيّ الأولياء الذين يقومون بالمسعى نفسه؟ إنه بحث عن رب ليس هو القدير العادل، وإنما العاشق المهموم القلق الخائب، الذي أدركه المتصوفة اليهود بشكل حميم في يهوه. الإله الشخصي ليس هو الواحد في الأحدية الرياضية. إنه واحد كل أحد. (11X1X ...). إنه الكل في كل واحد. فكل واحد هو أحدُه يحرره من وحدته، جاعلا منه ربه. ذلك هو كما يبدو المعنى العميق، وسر "إله الآلهة" حتى نستعيد هذه العبارة الهرمسية، التي يستعملها عادة حكماء التصوف كالسهروردي. وهو السر الذي قاربته كل أنماط العرفان، وربما بامتياز عرفان ابن عربي والإسماعيلية.

وحينها تنفرض علينا ببداهة وإلحاح المهمة التي لا تزال في بدايتها، أو بالأحرى أنها لم تتحقق أبدا، لأنها تفترض وجود "مركز للبحث الروحاني المقارن". وذلك هو العنوان الفرعي الذي نحدد من خلاله جامعة القديس يوحنا المقدسي. والمهمة الملحة هي الدراسة المقارنة للتأويل الباطني للكتاب، التي دعي إليه ومورس في قلب "ديانات الكتاب". وإعادة الربط بين الصورة والفكرة الباطنة لدى المتأولة الباطنيين للتوراة والأناجيل والقرآن تمكّن من لقاءات عاصفية. إنها مهمة جسيمة فعلا، تتطلب مساهمة مؤهلات عديدة، خاصة أننا نتحدث فعلا عن تأويليات "يُعتقد فيها وتُمارس". فلا يتعلق الأمر إذن بامتحان نظري بسيط، وإنما بالنتائج المعيشة من هذا الجانب وذاك. لهذا فإن جامعة القديس يوحنا المقدسي ليس فقط "جمعية للفلسفة".وهي ليست أيضا، بل أقل من ذلك بكثير، كلية للاهوت، تبلور وتدبر برنامجا في خدمة عقَدية معينة. لهذا، وحتى نحدد الاختلاف أفضل، نتْبع كل محاضرة ببعض التقاسيم الموسيقية، وهو ما يؤدي بالسامع إلى استبطان مباشر، أفضل مما يفعله... التصفيق. لقد أشرت إلى الفكرة الموجهة، بيد أن كل فرد من أعضاء المجموعة الأخوية للجامعة يحافظ على حريته الروحانية الكاملة. ثمة اختلافات عديدة بيننا، نحن الآتين من أصول متنوعة وبطرق مختلفة. والعروة الوثقى  هي الإرادة المشتركة والمسؤولية المشتركة، إحالةً إلى ما سميناه سابقا "الكنيسة الباطنة". وقد أصدرنا خمسة دفاتر تمثل ألف صفحة، جمعت لحد الآن أعمال دوراتنا السنوية. العلوم التقليدية والعلوم الدنيوية (1974). القدس مدينةً روحانية (1975). الإيمان النبوئي والمقدس (1976). وحجاج "المشرق" ومتسكعو "الغرب" (1977). عيون البدن وعيون النار، أو العلم والعرفان (1978).

كانت الدورة الأخيرة خصبة النتائج. فقد مكنت من تبديد العديد من نقاط اللَّبس المتعلقة بمفهوم العرفان، سواء من جانب الفلاسفة أو المؤرخين، الذين يجعلون من العرفان ما ليس هو، إما عن حذر أو بنقص في المعارف، أو من جانب نظريات الكون العرفانية الجديدة الحديثة. فالعرفان ليس لا إيديولوجيا ولا معرفة نظرية مباينة للإيمان. وبما أنه معرفة مخلصة بذاتها، فإن محتواها نفسه يتوجه للإيمان. إنه حكمة وإيمان، أيحكمة خالصة. وهو لا ينحصر في عرفانية القرون الأولى: فثمة عرفان يهودي وعرفان ومسيحي استمر طوال قرون، وعرفان إسلامي، وعرفان بوذي. وهو لا يستحق بالأخص أن نستعمل في حقه وبشكل إسقاطي كلمة "عدمية". بل هو المضاد الحيوي لها، ذلك أن رفض هذه الدنيا من أجل عالم آخر تكون الدنيا ممرا له ليس من العدمية في شيء. بالمقابل، فإن فلسفة ترفض هذه الدنيا وأفق عوالم أخرى هي ما يمكن نعته بالعدمية. وأي شيء مشترك بين هذا وتلك؟

أعتقد أن مجهودنا، الذي غدا ممكنا بتفاني بعض الأصدقاء لأجل الغائية نفسه، يمثل شيئا نادرا في بلادنا. ويبقى لصاحبه أن يشكر السماء على تمديد عمره بما يكفي كي يتمكن ذلك المشروع من النضج ويندرج في نهاية هذا التذييل. كنت فيما مضى المحقق والناشر لروزبهان البقلي الشيرازي، المنشد الصوفي الفريد بالفارسية للطريق السامي للحب الإنساني. وعلى هذا الطريق السامي يمكنني أن أؤكد أنه من غير حضور وتعاون رفيقة حياتي التي حمتني من الوحدة وانثناء العزم، لم يكن ممكنا شيء من المؤلفات التي ذكرت. ولأن تلك المؤلفات غدت ممكنة، فقد جعلت بدورها ممكنا ما يفعم أماني باحث وفيلسوف، بعد أن ولى الشباب، أعني أن يجد نفسه محاطا بشباب، وفلاسفة شباب (والعديد من بينهم ممن أعزهم حاضرون في دفاتر الهيرن هذه) يعرف جيدا أنهم سيتابعون بطريقتهم الخاصة العمل الذي سيتركه غير مكتمل، وأنهم سيسيرون أبعد منه على الطريق التي فتحها أمامهم. والشخص المفعم القلب بالرضى، سيستطيع القول مع سيميون حين سيأتيه أجله: "والآن يارب، اترك عبدك يلاقيك بسلام" (إنجيل لوقا، 2/29). وفي انتظار ذلك، "مادام النهار لم ينته بعد" (إنجيل لوقا) سيظل جنبهم في المكان والزمن الذي وضعنا القدر فيه.

 

هنري كوربان

يونيو 1978

باريس