Español/English/Français/Italiano/فارسی/عربية

ANGES ET ESPRITS MÉDIATEURS - revue connaissances des religions

 

    

CONNAISSANCE DES RELIGIONS  71-72 (1er semestre 2004)

 

مجلة "معرفة الديانات" عدد: 71-72 (نصف السنة الأول 2004)

 

Anges et esprits médiateurs

 

 

الملائكة والأرواح الوسيطة

 

 

 

 افتتاحية

 

عرف المشهد الثقافي الفرنكفوني خلال العقد الأخير من القرن العشرين سيلا من المنشورات المخصصة للملائكة. كان ذلك في جزء كبير منه أثرا لموجة المنشورات الآتية من وراء المحيط، محمولة على تيار "العهد الجديد (النيو آدج)"، وهو حركة توفيقية وروحانية جديدة  يفترض فيهاالاستجاية لطموحات إنسانية سائرة نحو "عصر برج الدلو"، وهو الأرض الموعودة لعصر ذهبي جديد.  وبين قصص التجليات السماوية في عتبة الموت، وطقوس استدعاء الأسماء العبرانية للملائكة، وكتب الإرشاد القبالية الجديدة التي تزعم الإرشاد إلى معرفة أفضل بالذات والمستقبل، من جهة، والاعترافات من قبيل "ملاكي الحارس موجود، لقد التقيت به"، لم يعد يعرف القارئ أي وجهة يتَّجه. بل ذهب بهم الأمر حدّ اقتراح سلسلة من المحاضرات: "كيف الرقي إلى مستوى الملاك الشخصي...؟"، أو مناظرات ينتظر منها أن تمكن الإطار الإداري القلق المتوتر أن يتحاور مع ملاكهواتباع نصائحه الرشيدة... وذلك قصد "الوصول بصحته إلى مداها الأقصى"، كيما تستفيد شركته منه أيما استفادة. وكما هي العادة دائما، حين تولد روحانية جديدة كل شيء يتلون بألوان ملاكية، أعني البحث عن القوى السحرية الخفية، وعلم الفلك من خلال الملائكة الكونيين، ورمزية الألوان، والعلاج الطبيعي، إلخ. وكان أثر النجاح الباهر لهذه الموجة من القوة بحيث إن لملائكة قد وظفت لمدة سنوات عديدة كمادة للأدب والسينما  والإشهار والخياطة الرفيعة وصفحات المجلات الأسبوعية. ما الذي يتبقى من كل هذا؟ لا شيء كثيرا والحمد لله، مما يعني أن كل ما هو تلفيقي ومركب لا يدوم طويلا، وأن كل ترميق فكري يتضمن في ذاته نهايته.

 

وما يبقى هو أن هذا الولع بالملائكة في نهاية القرن العشرين يعتبر ظاهرة ثقافية واجتماعية فريدة، تحيل إلى الحنين وتوقعات الإنسان المعاصر، الضائع بين عالم يسير نحو الرحيل منه وآخر لا يزال في عداد الغيب: إنه حنين لعالم روحاني مأهول بالمخلوقات النورانية، الخالصة والخيرة، الحنين إلى عالم "مسحور"، مزروع بالمطلق؛ وانتظار الصور الوسائطية القادرة على السمو بالنفس، ومساعدتها وتخليصها من الظلمات، وإرشادها على طريق المعرفة وعند الحاجة الشفاعة فيها. لقد أخذ الملائكة غالبا مكان إله يعتبر ميتا أو مفقودا، إله تضببت صورته ولا نعرف جيدا ما هو ولا ما يفعل.

 

وبالفعل، فإن هذه العودة للملاك لم تحل إلى أي إله، ولا إلى أي ديانة سماوية. بل إنه يقدم نفسه باعتباره لا يرتبط بأي أساس توراتي أو قرآني، إلا ببعض الاستيحاءات من القبالة اليهودية والعلوم الباطنية. وبالعلاقة مع الأولوية الممنوحة لتجربة اللقاء بالملاك وجدت هذه لمقاربة نفسها تتأكد بولادة إيكونوغرافيا تمنح الأفضلية للصورة الإغريقية اللاتينية للغلام المجرد من الثياب أو للصبي المجنح. وقد قام الفراغ العقدي والترميق التلفيقي اللذين يطبعان "النيو آدج" بإبراز الملاك باعتباره شكلا خالصا ووعاء يمكن ملؤه بطموحات إلى حياة "أخرى" وإلى معرفة روحانية معينة. ولم يعد الوحي هو الذي يمنح للملائكة معناها، وإنما الفرد الذي يبنيها على مقاسه.  فينجم عن ذلك لَبس كبير بحيث يمكن أن يسقط على الشكل الملاكي كل أنواع الاستيهامات وإرادة القوة أو الطموحات الحقة. كما أن الملائكة تمت مماهاتهم أيضا بالكائنات الفضائية أو "بالكائنات المتفوقة المجهولة"...

 

إن الحاجة المعقولة إلى عالم مأهول بالموجودات النورانية، التي تولي كامل اهتمامها للإنسان، يشكل الجانب الآخر الإيجابي لسواد النفوس، والكآبة المحيطة، ولعالم تُخشى عاقبته الكارثية. بيد أن التوْق إلى الحياة السماوية والمعرفة الحقة لا تكفي طبعا لاستعادة أفق روحاني فبالأحرى الملكوت.

 

لقد حان الوقت إذن للدراسة من جديد لصورة الملاك، بوضعها في البنية الدينية التي تتأطر فيها، عبر الكشف عن ثرائها الروحاني ورهاناتها الفكرية. أليس من المستعجل أن نغير نظرتنا للعالم، وأن نعيد للواقع كامل شساعته وتعقده ولغزه، بإعادة الروابط المفقودة بين الإنسان والإلهي؟ وهنري كوربان (1903-1978)، الذي يشكل هذا الكتاب إهداء له في ذكرى ميلاده المائة، فيلسوف ومستشرق ومتخصص في الحكمة الإلهية الإسلامية وفي الإسلام الإيراني، قد أرشدنا للطريقة بشكل لا مراء فيه. فهو لم يكف أبدا عن الإعلان بقوة: لا يمكن أن يوجد ثمة توحيد من غير ملكوت، ومن غير الإعلان عن التعالي الإلهي من خلال الرسائل السماوية، ومن غير تمظهر للإله في العديد من التجليات الملاكية. مقابل ذلك ، وعلى المستوى الأنثربولوجي، لا يمكن وجود معرفة روحانية من غير صعود النفس ولقائها بالملاك.

 

علينا أيضا أن نشدد على نقطة أساسية: إن علم الملكوت يتعلق بالديانات السماوية الثلاث. إنه الأرضية المفضلة لعمل فكري في خدمة توحيد روحاني حق بين الديانات. ففعلا، تشكل الملائكة في اليهودية والمسيحية والإسلام المخلوقات الأولى، والركن المعقول للعالم النفسي والمحسوس؛ وهذا العالم الروحاني يوفر صورة كون منظم ومتراتب، ومكون من العديد من درجات الواقع تقابلها حالات من العلم والمعرفة. فكل ملاك مرآةللألوهة، محدد بما يتلقى من نور إلهي وما يبثه منه. وهذا العالم المليء بالمعقولات مرتبط ارتباطا وثيقا بالكون، ومن ثم بالبشرية التي تعيش فيه.

 

وإذا كان الملاك شكلا ساميا من تمظهر الإلهي في اليهودية والإسلام، فهو ملحق بالكلمة المجسدة في المسيحية. إنه مُعلن الغيب، ويأخذ مكانة كلمة المسيح أحيانا ويدخل في خدمته. الكائن السماوي الذي يتغذى من الله، باعتباره نموذج الحياة الروحانية، وقناة للحمد والتمجيد، هو المثال الذي على الناس الولعين بالحياة التأملية أن يحاكوه. وبما أنه المعلم، والمرشد ومتأول الرؤى الروحانية، فهو الحارس والخديم للنفس، الذي يساندها في معركتها اليومية ضد العدو ويعرف كيف يتوارى أمام الحضور الإلهي حين تنتهي مهمته.

 

لكن الكائنات الوسائطية.ليست حكرا على لتقاليد التوحيد لوحدها. فمن وجهة النظر التاريخية، إذا كان الملاك فعلا صورة سامية في الأصل والتبلور، فليس من المشكوك فيه أنه قد تأثر بالتقاليد الهندوأوروبية، والفارسية والهلينية بالأخص. ففي المستوى الميتافيزيقي، يمكننا أن نذهب بعيدا: إذا كان المطلق يتمظهر في صور وسائطية متعددة، فإن هذه الأخيرة بالضرورة حاضرة في كل شيء، في أشكال وأسماء مختلفة، مهما كانت المجرَّة الروحانية التي نوجد فيها والتي تحدد طبيعتها، وشخصيتها ووظائفها. فمن المشروع إذن التطرق للتقاليد الشرقية وأن ندمج في هذا المجلد دراسة الآلهة البوذية، من منظور مقارن يكون محفزا.

 

فمن المهم، ضدا على النزعات الدينية المتطرفة والنزعات الروحانية الجديدة، أن نقوم بعمل مفيد بالنهل من مصادر التقاليد الكبرى وإبراز طرق التوحيد الروحاني الحق للديانات، وبإبراز أهمية الكائنات الوسائطية وخصوبتها الرمزية، وباستعادة العروة الوثقى بين التقليد والوحي، وبين درجات العلم والمعرفة، وبين مستويات الواقع والتجليات.

 

إدارة المجلة

 

 

 

 

 Jean Moncelon: La foi de Henry corbin "Terre-Ange-Femme"

 

جان مونصلون: عقيدة هنري كوربان "الأرض-الملاك-المرأة"

 

 

 

إن عقيدة هنري كوربان عقيدة رجل باطني، يعتبر أن العرفان "معرفة خلاصية بذاتها".

 

وهذه العقيدة تتمثل في "الأرض-الملاك -المرأة"، كما كتب ذلك في 24 أبريل 1932، على شط بحيرة داليكارلي: "كل هذا شيء واحد أعشقه ويوجد في في هذه الغابة. الأصيل على البحيرة، وعيد بشارتي. الجبل عبارة عن خط. لننصت. سوق يحدث شيء ما، نعم. الانتظار مؤرق".

 

الأرض التي يتعلق بها الأمر هنا، أي أرض عقيدة هنري كوربان،  هي الأرض السماوية، "العالم الوسيط" بين السماء والعالم الأرضي. إنها عالم الملاك.

 

الملاك

 

في يوم وفاة هنري كوربان، كتب ميرسيا إلياد في يومياته، بتاريخ 7 أكتوبر 1978: "هنري لم يتعذب. مات في طمأنينة مقدار ما كان متأكدا أن ملاكه الحارس ينتظره".

 

فعلا، علينا أن نتفاهم على طبيعة هذا "الملاك الحارس"، الذي يعتبره كوربان "ملاك النفس المتجسدة"، وفي ظرفية وفاته هذه بالضبط، "الصورة السماوية التي تتواجه مع النفس في فجر خلودها". وسوف يتحدث في مكان آخر عن "الفرافارتي"، باعتبارها "ملائكة حارسة". وذلك، "بشرط أن نعتبر الملاك الحارس قطبا سماويا، والأنا السماوية لموجود ما تكون كليته مزدوجة القطب وتشكل وحدة ثنائية، أي وحدة بين شكل أرضي وشكل سماوي يعتبر وجهها الأعلى".

 

ونحن نعرف الصفحات الرائعة التي خصصها لصورة "الدايينا"، "الملاك الوصي" وللقائه بعد الموت مع النفس الإنسانية.

 

"والدايينا تجيب على سؤال النفس الذاهلة التي تسأل "من أنت إذن؟" الفتاة التي تتقدم في مدخل جسر شنفات، والتي يشع جمالها ليعطي على كل جمال عرف على الأرض: "أنا الدايينا الخاص بك". وهو ما يعني: "أنا الإيمان الذي شهدت به وأنا من ألهمك إياه ومن استجبت إليهوأرشدك ، ومن واساك ومن اليوم يحاكمك، فأنا الصورة التي اقترحت عليك منذ ولادة وجودك والصورة التي أردتها لنفسك ("كنت جميلة فزدت من حسني")".

 

تصف هذه السطور وعلى سبيل الاستباق الزمني، الرؤيا الأخيرة لهنري كوربان، في اللحظة التي رحل فيها عن المظهر الأرضي.

 

الدايينا هي إذن ملاك العقيدة والإيمان لدى هنري كوربان، وباعتبار أنها أيضا "الفكرة السماوية" لكل كائن إنساني، فإنها تظهر باعتبارها سر هنري كوربان، كما سيقول ذلك بنفسه عن ابن عربي: "إن ما يبلغه ابن آدم في التجربة الصّوفية هو "القطب السماوي" لوُجوده، أي شخصه كما تجلى فيه الحق لنفسه وأصبح معروفا له في تلك الصورة التي هي أيضا الصورة التي فيها يتعرف فيها على نفسه فيه، وذلك منذ أزل الأزل في عالم الغيب. إنها فكرة شخصه أو بالأحرى "ملاك" شخصه الذي لا يعتبر الأنا الحاضر سوى قطبه الدُّنْيَوي".

 

 

 

 

L'Ange gardien des portes et des sept demeures

 

Frédérick Tristan

 

الملاك الحارس للأبواب والبيوت السبعة

 

فريديرك تريستان

 

 

 

هذا النص مستخرج من المحاضرة التي قام بها مؤلفه في ندوة الحلقة الأوروبية للفن المقدس عن الملاك، الذي أقيم في بون-أ-موسون سنة1981، بإشراف دومينيك بونو. وقد حافظنا على طابعه الشفوي.

 

 

 

تتعلق مداخلتي بموضوع بالغ الشساعة. لهذا سأحصره من زاوية التقليد اليهودي وبالأخص منه الزوهار ورسالة البيوت، بالرغم من أن الملاك الحارس للأبواب ومفهوم البيوت السبعة تنتمي لأرضية مشتركة للتقاليد الإبراهيمية الثلاثة. وسأقف طويلا في البداية لتحديد مفهوم "البيوتالسبعة" باعتبار أن البيوت والملائكة هنا مرتبطة أوثق ارتباط.

 

وأول إضاءة تتحكم في الإيضاحات الأخرى كلها هي: التكوين والخلق، كما يعرف الكل، تما في ست مراحل ومرحلة إضافية: ستة أيام للخلق ويوم للراحة، هو الشباط. وما يوجد بين البيريشيت، أي "في البدء" والشباط، أي ما خلقه الله "إلوحيم" ليس تعددا ولا شتاتا من المخلوقات والأشياء (النور، قبة السماء، الأرض، النبات، الكواكب، السمك، الطير، الحيوانات البرية، الإنسان)، وهو ما سيكون علامة على الكم والتباين والغيرية، إنه على العكس من ذلك مجموع واحد ووحيد منظم، عناصره عبارة عن كيفيات. بعبارة أخرى، فالنور والسماء والأرض والنبات، والكواكب، والسمك والطير والحيوانات البرية حتى الإنسان ليست في هذا البدء فرديات متمايزة ومتراكبة، وإنما انسجاما متوحدا؛ إنها ليست أعدادا مولدة للكم وإنما أرقاما للكيف. كما أن الأيام السبعة ليست أعدادا مولدة للكم وإنما أرقاما دالة على الكيف. فهي لا تنتمي لمجال المدة. إنها تعني أن الإنسان (الإنسان الأوحد أي المخلوق) يتكون من سبعة عناصر يرمز لأولها بالنور، وللأخير بالشباط. وهذا أمر مبين تبيينا في الترجمة الحرفية للعبرية: "كان المساء، كان الصباح، اليوم واحد" (وليس اليوم الأول)، "كان المساء، كان الصباح، يوم السادس" (لتوضيح التوقف قبل الشباط).

 

علينا أن نرى في ذلك الوحدة المطلقة للخلق. فالله جعل من الخلق واحدا، وهو ما يشكل أساس الديانة التوحيدية كما نفهمها هنا: إله واحد، وخلق واحد.فالأيام الستة ويوم واحد لا تشير هنا إلى توالٍ للخلق وإنما إلى خلق واحد يعتبر الرقم سبعة علامته، أي هويته. ولماذا سبعة؟ تجيبنا رسالة القصر، ورسالة هيخالوث: "لأن الله الظاهر عشرة وثلاثة تبقى سره، وسبعة خلقه المتراتب". يعني الخلق في سبعة أيام أن الوحدة الخالقة والوحدة المخلوقة قد شكلا بصورة ما الرقم ثلاثة (الوحدة الخالقة) وسبعة (الوحدة المخلوقة)، من غير أن تسقط في الثنائية، بحيث تظل هي نفسها. والسماوات السبعة المخلوقة هي المُقامات السبعة والبيوت السبعة، أي سبعة قصور في حضن الوحدة الأساسية، ولنكرر ذلك حتى نتجنب الخطأ، إنها سبع كيفيات متراتبة في الواحد الأحد.

 

وتقابل هذه السماوات السبعة الملائكة السبعة حراس القصر والأبواب.

 

  

 

 

Les Anges dans le monde imaginal et chrétien

 

Philippe Faure

 

الملائكة في العالم التصوري المسيحي والوسيط

 

فيليب فور

 

 

 

 

 

بلور هنري كوربان التعبير اللاتيني Mundis imaginalis [المقابل للتعبير الصوفي: عالم المثال] من أربعين سنة فقط، في مقال ظل مشهورا، كان عبارة عن بيان فعلي من أجل مقاربة جديدة للأدب الشهودي في الإسلام الإيراني، وتأويليات تنزاح عن مقولات الفكرية الحديثة. وقد كان كوربان يهدف من خلاله إلى الإشارة إلى عالم ونمط وجود ونمط معرفة. فبين الحواس والعقل، "كان "الخيال الفاعل" يفهم باعتباره ملكة إدراكية، مؤسسة لمعرفة تناظرية صارمة، قادرة على تحويل الحالات الباطنة ولأن تعكس في مستوى النفس  الصور الروحانية النابعة من عالم المعقولات. فـ"العالم التصوري" imaginal إذن هو ذلك "المكان" الذي لا يمكن تحديده، الموجود معلقا في مرآة النفس، ومكان تجلي الصور وحيث تصبح الأجسام لطيفة، وحيث النماذج الأصلية تأخذ شكلها، وحيث يغدو الحالات الروحانية ذات فضاء. وقد منحت القصص الشهودية والتعليمية الروحانية التي ألفها السهرورديلهنري كوربان مثالا نموذجيا للطوبوغرافيات الروحانية للإسلام الإيراني.

 

وحسب علمنا، فإن عبارة "عالم المثال " لم تطبق أبدا على النصوص الشهودية الوسيطية. وكوربان نفسه لم يتردد في الاهتمام بالوثائق الروحانية الغربية، كأدب الغرال، والحكمة الإلهية لسويدنبورغ ساعيا، كما فعل ذلك في المجال الإسلامي، إلى استكشاف مؤلفات هامة اعتبرت دائما هرطقة. ويبدو لنا مع ذلك أن الواقع المستهدف من خلال عبارة "عالم المثال أو العالم التصوري" يتعلق أيضا بمصادر متوافقة أكثر مع الأرثودوكسية المسيحية، سواء تعلق الأمر بالقصص الشهودية أو بنصوص المناقب. من الأكيد أن المعرفة الشهودية لم تحظ في المسيحية بنفس التنظير الذي حظيت به في الإسلام، وأن الرؤى الوسيطية تدخل في إطار لاهوتي بالغ التحديد. إننا لا ندعي هنا القيام التقريب بين العوالم الشهودية المسيحية والإسلامية والتوفيق بينهما، أو القول بأن نظرية المعرفة ووضعية الصورة الروحانية في الثقافتين مترادفتان. فقبل هذه القضايا يتعلق الأمر فقط بتبياننا أن عالما للصورة الروحانية بسُننها ومنطقها الخاص قد تبلور في حضن المسيحية الوسيطية وبالأخص الرهبنة، عالم يشكل فيه الملائكة فاعلين أساسيين وحاملي معرفة روحانية.

 

 

 

 

Les Anges dans l'Islam

 

Pierre Lory

 

 الملائكة في الإسلام

 

بيير لوري

 

 

 

تبدو القضايا المتعلقة بالملائكة هامشية ونافلة بل مبتذلة من بين مجموع عمليات التفكير في الأديان. والحديث عن "جنس الملائكة"، يعني الخوض في تأملات لا رهان واقعيا لها، تلهي الناس عن الآفاق العميقة للتفسير والميتافيزيقا أو الأخلاق. نحن نعتقد أن الأمر ليس كذلك. والمؤلفات الحاسمة لهنري كوربان ماثلة أمامنا كي تبرهن على أن علم الملكوت يندرج بالعكس في عمق قضية الديانات التوحيدية. نريد هنا أن نقدم بعض التأملات عن تبلور هذه المسألة في الفكر الإسلامي الكلاسيكي، ولماذا يمثل الملائكة، بالرغم من خفائهم الظاهر، ركنا أساسيا في صعود الكون نحو الرب، باعتباره الغاية النهائية لكل خلق.

 

إذا نحن انطلقنا من النصوص المؤسسة للتقليد الإسلامي، أعني القرآن والتعاليم المنسوبة للنبي محمد ولصحابته والأجيال الأولى من العلماء، فإننا نجد منذ البداية في الكون حضور ثلاث مجموعات من الكائنات الواعية:

 

 إن بني البشر هم الفئة التي تبدو لنا المعروفة معرفة أكبر، وهم يبدون لنا كذلك لأن طبيعتهم ودورهم والحق يقال لا يزال لغزا في نظر بني الإنسان أنفسهم. لقد عني لآدم وذريته بمهمة فريدة من نوعها. فبما أنه خليفة الله في أرضه، وسجدت الملائكة له فقد أوكلت له أمانة ملغزة يوضح فحواها النص القرآني: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا". (سورة الأحزاب، آية 72). وهكذا فإن الطابع الضعيف والميال إلى الإثم الذي يميز الإنسان عن الملائكة كما عن الحيوان، يبدو كما لو كان ملازما أو مقابلا لصعود جزء عظيم من أهداف الخالق. هذا الجهل الجوهري، وهذا الجانب المعتم الذي تتضمنه الطبيعة الإنسانية هو ما يجعل الإنسان قادرا على إنجاز مهمته في العالم الأرضي الكثيف والثقيل والمظلم.

 

يشير القرآن إلى الجن في آيات عديدة. إنها كائنات ذات أجسام لطيفة، غير أنها تختلف بوضوح عن الملائكة لأنها خلقت من نار (سوة الحجر، آية 27) لا من نور مثلهم، ولأنها تسكن الأرض لا السماء. والحقيقة أن شرطهم قريب من شرط بني آدم، لأنهم يولدون ويتناكحون ويموتون. ومثلهم عليهم طاعة ربهم، كما يمكنهم معصيته والكفر به، وسيحاسبون على أفعالهم يوم القيامة بالجنة أو النار. ودورهم في اقتصاد خلاص بني البشر هامشي مع ذلك. والجن المتمردون (الذين تتم مطابقتهم أحيانا بالشياطين) يمكنهم أن يشكلوا فعلا فتنة لبعض الناس (سحرة أو متكهنين بالأخص) بالخدمات التي يقدمونها لهم. وعلى كل حال فلا يمكنهم مساعدة الناس لا ماديا ولا معنويا، حتى في حال الجن المؤمنين الفضلاء. بل إن العكس هو الذي يمكن أن يكون صحيحا، بما أن الجن كلهم مدعوون لتلقي وتطبيق الرسالة الإلهية التي يدعو لها الأنبياء التوحيديون ومحمد منهم بالأخص، وهو الدور المنصوص عليه في القرآن (سورة الجن، آية 1-17).

 

الفئة الثالثة من الكائنات الواعية هي الملائكة. والدور العام للملائكة في الديانة الإسلامية بالعلاقة مع باقي المخلوقات مفارق كثيرا. فالعقيدة تؤكد وجودهم. والقرآن يثبت حضورهم وأنشطتهم في العديد من الآيات. لكن من جهة أخرى، يبدو هذا الدور محايدا نسبيا ومعدوما. يتعلق الأمر فيما يبدو بدور تنفيذي فقط. لكن التحليل المعمق يمكِّن من تمييز ما يختفي وراء الصورة الموحدة الشكل لتجليات الملائكة.